صالح الشادي
مع اقتراب ذكرى الثورة السورية، تعود إلى الأذهان الأسئلة المصيرية حول مستقبل هذا البلد العريق الذي مزقته السنوات العجاف. تمثل فكرة «سوريا الجديدة» ليس مجرد شعار سياسي، بل أمنية شعب عانى وطنياً وإنسانياً، وطموحاً لبناء دولة تليق بتاريخ سوريا الحضاري وتنوعها الإنساني الفريد.
إن الحديث عن مستقبل سوريا يستدعي قراءة متأنية تتجاوز الخطابات السياسية إلى فهم عميق للتحولات الجارية والسيناريوهات المحتملة.
تستند رؤية مستقبل سوريا إلى عدة مرتكزات أساسية، أولها تحقيق مصالحة وطنية حقيقية تتجاوز منطق المنتصر والمهزوم نحو اعتراف متبادل بالألم والخسارة، وإعادة بناء الثقة المدمرة بين مكونات المجتمع السوري. فالمستقبل لا يمكن أن يُبنى على انتصار طرف على آخر، بل على عقد اجتماعي جديد يحفظ الكرامة والعدالة للجميع. حيث تشير تجارب الشعوب التي خرجت من صراعات مماثلة إلى أن المصالحة الحقيقية تتطلب آليات عدالة انتقالية توازن بين متطلبات المحاسبة وضرورات الاستقرار الاجتماعي.
المرتكز الثاني يتمثل في إعادة الإعمار الشامل، الذي يتجاوز ترميم الجسور والأبنية المدمرة إلى إعادة بناء الإنسان السوري وإطلاق طاقاته الإبداعية. فالتحدي الاقتصادي الهائل الذي تواجهه سوريا يتطلب رؤية تنموية مبتكرة تجعل من الأزمة فرصة لإعادة هيكلة الاقتصاد، والتحول من اقتصاد الريع والصراع إلى اقتصاد إنتاجي قائم على المعرفة والاستدامة. وتلعب دول المنطقة هنا خاصة المملكة العربية السعودية دوراً محورياً من خلال الاستثمارات الموجهة والمشاريع التنموية التي تسهم في خلق فرص العمل وقد تمنع استمرار النزوح والهجرة.
أما المرتكز الثالث فيكمن في صياغة هوية وطنية جامعة تحترم التنوع وتؤسس للمواطنة المتساوية. إذ كشفت سنوات الصراع عن حساسيات هوياتية عميقة تحتاج إلى معالجة واعية عبر نظام سياسي لا مركزي يمنح المحليات صلاحيات حقيقية، ويحافظ في الوقت نفسه على وحدة الدولة وسيادتها. فمستقبل سوريا مرهون بقدرة نسيجها الاجتماعي على تجديد ذاته، وقدرة نخبها السياسية والفكرية على تقديم رؤية تتجاوز الانقسامات الضيقة.
غير أن الطريق نحو «سوريا الجديدة» لا يخلو من عقبات كبرى، فالجروح النفسية والاجتماعية عميقة، والتركة الاقتصادية ثقيلة، والتدخلات الخارجية لا تزال تشكل عاملاً مؤثراً في المعادلة السورية. كما أن التحدي الديمغرافي الناتج عن النزوح والهجرة يطرح أسئلة مصيرية حول طبيعة المجتمع السوري المستقبلي وتركيبته.
رغم كل هذه التحديات، فإن الإرادة الإنسانية للسوريين وقدرتهم على الصمود تبعثان على الأمل. لقد أظهر المجتمع المدني السوري، رغم كل الظروف، قدرة ملهمة على العمل والإبداع. وهناك إدراك إقليمي ودولي متزايد بأن استقرار سوريا ليس خياراً بل ضرورة لاستقرار المنطقة بأكملها.
ويمكننا القول هنا بأن مستقبل سوريا ليس محتوماً بنتائج الماضي، بل هو مجال للاحتمالات والإرادات. اذ إن بناء «سوريا الجديدة» يتطلب شجاعة في الاعتراف بأخطاء الماضي، وإبداعاً في حل إشكاليات الحاضر، ورؤية واضحة لمتطلبات المستقبل. وهو مسؤولية لا تقع على السوريين وحدهم، بل على المجتمع الدولي الذي تقاسم في صنع المأساة، وعليه أن يشارك في صنع السلام والنهضة. مع كل ذكرى تمر، تذكرنا سوريا بأن مستقبل الشعوب يصنعه أبناؤها عندما يقررون تحويل المعاناة إلى قوة، والصراع إلى تجاوز، والذاكرة المؤلمة إلى حكمة تؤسس لغد أفضل.