صابر المحمدي
الأستاذ محمد بن صالح البليهشي.. رجلٌ إذا تجلّى اسمه على السطر، انتبهت له الحروف، واصطفّت حوله الكلمات، وتباشرت به المعاني؛ فهو من أولئك الذين إذا ذُكروا أشرقت الأقلام، وإذا كتبوا أزهرت الفِكَر، وإذا صمتوا تحدّث الصمتُ بفرائد سيرتهم قبل أن تنطق الشفاه.
وُلِد في المضيق بوادي الفرع؛ في حضن أرضٍ تغتسل بالعراقة، وتفيض بالسكينة، وتقرأ على جبالها دروسَ العلوّ منذ الأزل؛ أرضٍ إذا همست بحجارتها سمعتَ التاريخ، وإذا حدّقت في ملامحها رأيت صدى الأجيال. هناك تفتّحت مداركُه وتشكلت في روحه سجيةٌ كريمة، وطويةٌ مستقيمة، وطباعٌ لا تخذلها النخوة ولا يخذلها الزمن.
واجتمع في طبعه إشراقُ الكلمة، ورصانةُ الفكرة، وجمالُ الحرف؛ فكلمتُه رقيقةٌ كنسيم السَّحر، وفكرُه متينٌ كثبات الجبال، وحرفُه مضيءٌ كوميض الفجر. فكان لحديثه وقعٌ تألفه الأرواح قبل الأسماع، وصوتٌ يعبر طرق الوجدان قبل أن يعبر طرق الآذان، ولأسلوبه طابعٌ يعشقه القرّاء كأنهم يجدون فيه ظلَّ أرواحهم، ويتلمّسون بين سطوره ما تُخفيه الكلمات وما يُظهره الإلهام.
ودرس في معهد المعلمين ثم واصل تحصيله حتى نال شهادته الجامعية، وكانت معارفُه الواسعة تُنمّي الإدراك وتُقوّي بصيرة الفكر، فخرج منه أديبٌ رصينُ اللغة، واسعُ الثقافة، مشرق الروح؛ يجمع بين إشراقة العقل ورهافة اللمسة، وبين عمق التأمل وأناقة الفكرة.
وحين دخل ميدان التعليم دخل كما تدخل الغيمةُ أرضًا مشتاقة؛ تُحيي، وتروي، وتنبت. كان معلّمًا ثم مديرًا لمدارس عديدة، لا يرفع الصوت، بل يرفع القيمة؛ لا يقوّم الطالب بالعقاب، بل ينهض به بالرفق؛ لا يكتب التقارير، بل يكتب في نفوس طلابه سطورًا لا تمحوها الأيام. وكان إذا تولّى إدارةَ مدرسةٍ مديرًا لها، انتظمت بها الأحوال كما ينتظم العقد حول جيدٍ من نور، وإذا دخل مرفقًا تربويًا أزهرت أروقته كما يزهر الغصن بعد مطر؛ وفي ثانوية الأنصار ثم ثانوية عبد العزيز الربيع، كان كمن يمسك وترًا من ذهب: يُهذّب اللحن، يُقوّم النظم، ويجعل من المدرسة قصيدةً تمشي على قدمين وتتنفّس المعنى.
وحين طوى صفحة الإدارة لم يطوِ صفحة العطاء؛ بل انتقل من مرفقٍ إلى آخر حتى أسّس مدارس القصواء الأهلية، صرحًا تربويًا زيّن مبانيه بحكمته، ونشر في أجوائه روحًا تحرسه من العطب.
وأما الصحافة، فهي محراب كلمته، ومنبر صوته، ومسرح فكره. بدأها عام 1388هـ، فكان قلمه مسعفًا للذاكرة، ومؤنسًا للمشهد، ومصحّحًا للدروب. وحين جلس على كرسي مدير مكتب جريدة الندوة، لم يكن موظفًا يحمل منصبًا، بل كان ضميرًا يحمل مسؤولية، ومنارةً تهدي القارئ حيث يريد أن يبصر. وفي رحاب الأدب وقف ثلاثة عقود كاملة في مجلس إدارة النادي الأدبي بالمدينة المنورة، يسقي شجرة الكلمة من روحه، ويذود عن حياض البلاغة بقلمه، ويودِع في سجل النادي إيقاعًا باقـيًا لا تُطفئه السنين ولا تُبليه الأعوام؛ إيقاعًا يُصغي إليه الزمن إذا مرّ، وتستعيده صفحات الأدب كلما فُتحت.
وجاءت مؤلفاته كحدائق من نور، تتجاور فيها القصة والوثيقة، ويسكنها التاريخ والتراث والتربية في وئامٍ لا يجيده إلا من صقلته التجارب؛ فمن (حروف في الرماد)، إلى (المدينة.. اليوم)، إلى (لمحات من حياة الربيع)، إلى (المدينة المنورة)، إلى (مدينة بدر التاريخية)، إلى (رسائل في حب الوطن)، إلى (ثانوية طيبة في خمسين عامًا)، إلى (جائزة السيد أمين مدني)، ثم إلى سفره الفاتن (وادي الفرع.. تاريخ وحضارة)، حتى تتوّج المسيرة بـ(المدينة في عهد الملك عبدالعزيز).
ثم تُختتم هذه البساتين بتحقيقه لتراث الأديب عبد العزيز الربيع - رحمه الله - في ستة أسفار نفيسة: (كتب ومؤلفون)، (مناقشات ومناوشات)، (مقاولات وتعليقات)، (نظرات تربوية)، (شوقيات وشوكيات)، (نص.. لم يكتمل).
وقد شهد له الأديبُ عبدالعزيز الربيع - رحمه الله - بشهادةٍ تليق بعارفٍ بخبرة، وبميزانٍ لا يخطئ موضع الجمال؛ فقال: «يمتاز أسلوبه بالعفوية والبساطة والصدق والحب..»؛ وشهادة العارف وسامٌ لا يُشترى، ومجدٌ لا يُنسى.
وقلبُه، الذي أفاض على الناس من حبّه ووقته ووفائه، شاهدٌ على رجلٍ يحمل عطاؤه صفاء الضوء وثبات جوهره؛ ضوءٍ لا يقيس قيمته بعلوٍّ أو خفوت، بل بصفائه الذي لا يتبدّل. وقلمه مرآةٌ صافيةٌ لإبداعٍ أصيلٍ لا يُفتعل ولا يُستعار، وتدلّ عليه صفحاته دلالة الجوهرة على معدنها الكريم. وفي سلسلة (رموز في الذاكرة) يظهر صوته في أبهى صوره: عقدٌ من السير المشرقة، تكشف كلُّ صفحةٍ فيه عن جمالٍ راسخٍ في روحه، لا تُضاف إليه الجواهر ليكتمل، بل تُظهِر ما كان فيه مكتملًا منذ البدء.
نسأل الله أن يمدّ في عمره على الطاعة، ويكسوه ثوب الصحة والعافية، ويبارك في جهده وعطائه، ويجزيه عمّا كتب ويكتب من نورٍ ووفاءٍ وأثرٍ جميل، أعظم الأجر والمثوبة، وأن يجعل كل حرفٍ خطّه ضياءً يجري في موازينه ما دام الليل والنهار.