مرفت بخاري
كانوا معنا ورحلوا بطيب الأثر نجيب الزامل - رحمه الله - واحد من أولئك الذين يولدون وفي قلوبهم مساحة تتسع للعالم كلّه. نشأ في المنطقة الشرقية، في بيئة هادئة وبسيطة، لكنها كانت أعمق مما تبدو؛ فقد تربّى في مدارس أرامكو التي علمته الانضباط والبحث، وربما من هناك بدأ إدراكه الأول بأن الإنسان لا يُصنع فقط بما يتلقاه، بل بما يضيفه هو إلى نفسه. عاش شبابه بين الكتب والمرض، وبين الحلم والواجب، وكان مرضه الذي رافقه سنوات طويلة أشبه بظلّ ثقيل، لكنه لم يسمح له يومًا أن يكون عبئًا، بل حوّله إلى وعيٍ عميق وفلسفة وهدوء يشبه صبر الحكماء.
دخل الصحافة من باب الكلمة الصادقة، فكتب كما لو أن قلبه هو الذي يمسك بالقلم. لم يكن يكتب ليملأ مساحة، بل ليملأ وعياً. في مقالاته كان يقترب من الناس بصفاء نادر، يلمس ما يعجزون عن قوله، ويفتح لهم بابًا صغيرًا على الذات، يذكّرهم بأن الحياة تستحق أن تُعاش بخفة ومحبة ونية طيبة. ثم انتقل إلى مجلس الشورى، فلم تغيّر المناصب شيئًا من بساطته، بل وسّعت من أثره، ليصبح حضوره امتدادًا للصوت الهادئ الذي يتحدث حين يجب، ويصمت حين يكون الصمت حكمة.
لم يكن نجيب الزامل متطوعًا عابرًا؛ كان يرى في العمل التطوعي جوهر الإنسانية نفسها. أسّس جمعية للعمل التطوعي في المنطقة الشرقية، وأعاد صياغة مفهوم العطاء ليجعله أكثر نقاءً وأقرب للناس. كان يردد دائمًا أن التطوع ليس عطية مادية، بل روح تُعطي، وإن لم تملك سوى كلمة أو ابتسامة أو وقت. ولهذا أحبه الشباب، واعتبروه نموذجًا للرجل الذي يقول ما يفعل ويفعل ما يؤمن به.
في داخله كان شيء يشبه الربيع، يهدأ لكنه لا ينطفئ. كان يعامل نفسه بعقله، ويعامل الناس بقلبه، وهي فلسفة تجمع بين وضوح الفكر ولطف الإنسانية. وحين يتحدث عن المعرفة، يتحدث كما يتحدث العاشق عن محبوبته. قال ذات يوم: «الكتب ساهمت بأن أكون ما أنا عليه.. فتحت قلبي على العالم». لم يكن هذا قولًا عابرًا؛ كانت الكتب رفيق عمره، ونافذته الأولى نحو الحياة، وسببًا في اتساع بصيرته وتأمله الدائم.
ومع كل إنجاز حققه، وكل كلمة كتبها، ظلّ أثره الأكبر في الأبناء الذين حملوا منه أكثر مما ورثوا. بعد رحيله بقي حسابه في «إكس» يدوّن حكمه، وتظهر فيه تغريدات ملهمة تُعيد صوته للناس، وكأن الأبناء قرروا أن يكونوا جسرًا بينه وبين العالم الذي أحبّه.
لم يكن ذلك وفاءً عاديًا، بل امتداد عميق لرسالة عاشها الرجل بينهم، وغرسها في قلوبهم قبل أن يودّعهم. لقد ترك لهم ما هو أثمن من الاسم: ترك لهم طريقه، ونظرته، وإيمانه بأن الإنسان الحقيقي هو الذي يترك أثرًا يتابع حياته بعد أن يرحل.
ومع كتبه التي بقيت شاهدة عليه - «نزهة في 7 أيام» بأجزائه الثلاثة، و»رسالة لابنتي» - بدا وكأنه يكتب للأجيال القادمة، لا للورق. يكتب ليعلّم، لا ليُحفظ. يكتب ليحمي أرواحًا صغيرة من قسوة الحياة، وليُرشد قلوبًا حائرة إلى الطريق الأبسط: طريق الخير.
وهكذا، حين نذكر نجيب الزامل اليوم، لا نذكر سيرة رجل مضى، بل نذكر سيرة أثر. رجل بدأ حياته بهدوء، وعاشها بعمل، وختمها بمحبة تجمّعت في قلوب الناس وأبنائه، لتظلّ شاهدة عليه. لم يكن نجمًا عابرًا في سماء العمل الإنساني، بل كان من تلك النجوم التي لا تغيب.. لأنها تترك نورًا يكمل المسير من بعدها.
قد يكون أعظم درس يمكن أن يُستلهم من حياة نجيب الزامل هو كيف يحوّل اللحظة العادية إلى أثر دائم. لم يكن العطاء عنده مجرد حدث، بل عادة يومية تُدرّب الروح على الانتباه للآخرين: ابتسامة بسيطة لرجل مسن، كلمة تشجيع لشاب متردد، وقت يقضيه مع متطوعين مبتدئين لتعليمهم الصبر على الصعاب. هذه التفاصيل الصغيرة هي التي تصنع القدوة الحقيقية، لأنها تعلم الأجيال أن الأثر لا يحتاج إلى منصب أو شهرة، بل إلى نية صادقة وعمل متكرر.
في زمن يميل فيه الكثيرون للسرعة والسطحية، تجسدت رسالته في الاستماع العميق للآخرين، وفهم احتياجاتهم قبل تقديم أي حل. هذا أسلوب عملي في الحياة يمكن للشباب أن يقلدوه: أن يسمعوا أكثر مما يتحدثون، وأن يضعوا أنفسهم مكان غيرهم قبل اتخاذ أي قرار.
كما أن فلسفته في تنمية روح المبادرة الصغيرة تُعد درسًا عمليًا: كان يرى أن كل جهد مهما بدا بسيطًا - ترتيب مكتبة، تقديم نصيحة، تنظيم نشاط تطوعي محدود - له أثر يتضاعف حين يُمارس بإخلاص. هنا تتعلم الأجيال أن النجاح ليس حجم المشروع، بل قيمة تأثيره في من حولك.
وأخيرًا، القدوة في نجيب الزامل تظهر في كيفية دمج القيم مع الحياة اليومية. لم يُعلّم الشباب نظريًا، بل عبر تصرفاته اليومية، واهتمامه بالتفاصيل، وحرصه على أن يكون كل فعل صغير مرتبطًا بمبدأ أكبر.
هذا يترك درسًا عمليًا: أن القدوة الحقيقية لا تُقاس بالكلمات، بل بالتصرفات التي يراها الناس ويعيدون تنفيذها في حياتهم، وهكذا تبقى إرثًا حيًا لا يزول.
و القدوة ليست في المنصب، ولا في الكلمات الكبيرة، بل في التفاصيل اليومية التي تصنع الفرق. نجيب الزامل رحمه الله علمنا أن أثر الإنسان يُقاس بصدق نيته وباستمرارية أفعاله الصغيرة: ابتسامة لشاب متردد، كلمة تشجيع لمحتاج، وقت يُقدّم لتعليم الآخرين الصبر والمثابرة.
في عالم يسير بسرعة، ترك لنا درسًا عمليًا: أن نستمع قبل أن نتحدث، وأن نفهم قبل أن نحكم، وأن كل جهد مهما بدا بسيطًا يمكن أن يتضاعف أثره حين يُمارس بإخلاص.
وما يجعل قدرته على أن تكون قدوة للأجيال أكثر عمقًا، هو كيف دمج القيم مع حياته اليومية. لم يُعلّم بالنظريات، بل بأفعاله التي يمكن للشباب أن يقلدوها ويعيشوا روحها اليوم. هكذا تبقى إرثًا حيًا، نورًا يستمر في الأجيال القادمة، وإشارة واضحة إلى أن العظمة الحقيقية لا تُقاس بما نملك، بل بما نزرعه في الآخرين.
رحم الله مسيرة الحب التي عاشها نجيب الزامل في كل مناحي حياته، حيث طاقته الحنونة التي امتاز بها في حديثه وفي لقاءاته، والتي كانت تجسيدًا حقيقيًا لإنسانيته. لا يمكنك إلا أن ترى الجانب الإنساني يتجلى بصدق ودفء، حتى أصبح نجمًا مشعًا لا يزال يلمع في سماء الكون بطيب الأثر، ويمثل مصدر إلهام لكل من يسعى للعطاء والصدق والحكمة في حياته. هكذا يبقى إرثه حيًا في القلوب والأفعال، نورًا يستمر في الأجيال القادمة، وإشارة إلى أن العظمة الحقيقية لا تُقاس بما نملك، بل بما نزرعه في الآخرين.