فاطمة آل مبارك
في فضاءات التواصل الاجتماعي تتكاثر الحسابات التي تبث مقاطع تبدو واقعية، تعيد تشكيل الوجوه والأصوات والحركات بدقة تحاكي الحياة اليومية حدّ التطابق، يقف المتلقي اليوم أمام شاشة تمتلئ بمقاطع تظهر شخصيات عامة ومشاهير وساسة في صور مصطنعة، تنسب إليهم أفعال لم يقوموا بها، وتلصق بهم عبارات لم يتلفظوا بها، مشاهد تشوه السمعة وتمس الأمن، وتستهدف قبل كل شيء تشويش الوعي وتزييف العقول فمقطع واحد مفبرك قادر على صناعة حدث لم يقع، ومع ذلك يصدقه الملايين.
ومن تجربتي اليومية في متابعة الفضاء الرقمي، ألاحظ كيف أن المقاطع التي تبدو بريئة أحياناً تحمل رسائل خفية تغير من وعي المتلقي دون أن يشعر، فالمعلومات المضللة تنتشر بسرعة تفوق قدرة المؤسسات على نفيها، وتتحول إلى أدوات للتلاعب بالرأي العام وصناعة الشائعات ومع الوقت، يتراجع يقين الناس بمصادر الأخبار، ويصبح الشك لغة يومية، وتضطرب معايير التمييز بين الحقيقة والوهم، حتى يدخل المجتمع في حالة من العمى المعرفي يتوقف فيها العقل عن الإيمان بما يمر أمامه لكنه في الوقت ذاته لا ينكره ومع تعمق الظاهرة، تتشكل ما يمكن تسميته بثقافة الشك، ويبدأ الأفراد بالتساؤل عند كل مشهد أهو حقيقي أم محض محاكاة؟ فالزيف البصري هنا لا يهدد المعلومة فقط، بل يضرب الوعي الجمعي في صميمه ويعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان وما يشاهد من حوله.
ومن هنا، وللخروج من هذا المشهد لابد من بناء ثقافة رقمية قادرة على حماية وعي الفرد والمجتمع، تميز بين الحقيقة وصورتها المصنعة يجب على المتلقي نفسه بأن يتخلى عن ثقافة التمرير والتصديق لأن إعادة نشر الوهم هو شكل من أشكال المشاركة فيه.
أن يقرأ الصورة قبل أن يصدقها، وأن يفهم المشهد قبل أن يرسله للآخرين، وأن يدرك أن الخطر لا يبدأ من صانع التضليل، بل من المتلقي الذي يمنحه الانتشار.
وعلى المنصات تطوير أدوات تقنية متقدمة لكشف المحتوى الاصطناعي، وعلى التشريعات تجريم الاستخدام التضليلي للذكاء الاصطناعي، بالتوازي مع تعزيز التثقيف الإعلامي الذي يقوي وعي الفرد ويمنحه القدرة على التمييز.
وفي ختام هذا المشهد، يظل السؤال: هل تستطيع سرعة الوعي البشري مجاراة سرعة الآلة، أم سنبقى نطارد الحقيقة فيما تغير التقنية ملامحها كل يوم؟ لنبدأ بالاعتراف بأن الثقة أصبحت موردا نادرا، وأن صونها لم يعد مهمة إعلامية فحسب، بل مسؤولية وطنية وأخلاقية والتحدي الحقيقي هو استعادة قدرة الإنسان على رؤية ما وراء الصورة، وأن البداية تكون باليقظة اليومية لكل ما نراه، وبمسؤوليتنا الفردية قبل أي تشريع أو قانون.