د.محمد بن عبدالرحمن البشر
أحمد بن عبدالملك بن مروان بن أحمد بن عبدالملك بن شهيد الأشجعي القرطبي الأندلسي يكنى بأبي عامر، وشهيد بضم الشين وفتح الهاء وتشديد الياء، شاعر وأديب مميز، عاش في عهد هشام المؤيد بن الحكم المستنصر، والخليفة هذا لم يكن لديه من العقل ما يساعده على ما تعيشه الأندلس في زمان، فكان عهده بداية انحدار الحكم الأموي، وقد استغل الحاجب بن أبي عام الظروف وأبعد الوزير المصحفي ثم قتله في قصة مشهورة، وحجر على الخليفة وأصبح حاكم البلاد المطلق، وقد حفظ لقرطبة مكانتها وحماها من الأخطار المحدقة بها.
كان لوالد أحمد هذا مكانة عند المنصور فولاه مدينتي تدمير وبلنسية، لكن بعد تسع سنوات، عزف عن الولاية والحكم والشهرة، وطلب الإقالة من الولاية، وانصرف إلى الورع بعد مرض ألم به وشُفي منه، ومثل هذا التغير النفسي حدث لوزير وعالم وشاعر وأديب أندلسي آخر عاش في حكم بني نصر بعد ابن شهيد بسنين مديدة، فقد انصرف عن الدنيا واتجه إلى التصوف، وأراد الخروج من الوزارة فخشي على نفسه فهرب إلى المغرب، وبعد تغير الحاكم هناك، سجن ثم قتل في سجنه، وكان من أعظم من أنجبتهم الأندلس.
وتغير الحالة النفسية عند البعض أمر مألوف فمنهم من ينصرف إلى العبادة ومنهم من يتصوف ومنهم من يتطرف في فكره، وآخر قد يسلك طريق اللهو والمجون مثل ابن سعيد الأندلسي الذي حاول والده القريب من السلطان صرفه عن ذلك، وتولي إحدى المهام لكنه أبى وأرسل إلى والده قصيدة يعتذر فيها، ويطلب منه السماح له بعدم تحمل عناء المسؤولية وتركه يستمتع بملاذ الدنيا.
وابن شهيد هذا له شعر رقيق، ونثر رائق، لاسيما في رسائله التوابع والزوابع ورسالة الحلوى، والتفضيل بين البغل والحمار، أحب قرطبة وبقي بها مع ما تعرضت له من خراب أثناء الفتنة القرطبية، التي تقطعت بعدها أوصال الأندلس وتحولت إلى دويلات الطوائف، واستمر ولاؤه لبني عامر، وقد استقل أحدهم بأحد ثغر من ثغورها، وطلب من أحمد بن شهيد القدوم إليه لاكرامه وتوليته مهام كبرى لكنه اعتذر، وقال فيها شعرا منه:
عجُوزٌ لَعمْرُ الصّبا فانِيهْ
لها في الحشَا صُورةُ الغانِيهْ
زَنَتْ بالرِّجالِ على سِنِّها
فَيا حبَّذَا هِي مِن زانِيهْ
تُريك العُقُول على ضَعْفِهَا
تُدارُ كما دارتِ السّانِيهْ
ولو توقفنا عند البيت الأخير لكفى وصفا لعاصمة دولة كانت منار الحضارة للعالم، لكن الفتن أحاطت بها من كل جانب، وتنازعتها الأهواء وتأجيج الفتن بين العرب والبربر، فتقطعت اوصالها، ويقال إن الوزير والشاعر المشهور ابن زيدون له دور في ذلك، وفي نهاية المطاف تولى أمر قرطبة آل جهور.
وان شهد في رسائله لا يمكن ان تقرأ ماذا يرمز إليه، مع كثرة الأقاويل والتحاليل من قبل الذين أمعنوا في دراستها، وفي ظني أنه لا يرمز إلى شيء، وانما هو أديب أرخى لقلمه العنان ليكتب شيئا جميلاً في صورة مختلفة، فيها شيء من الطراوة والبعد عن الواقعية ليطرب نفسه ويطرب غيره، لاسيما ان لديه ملكة تؤهله لذلك، فخرج من واقع مجتمعه القرطبي المؤلم آنذاك، فبث أحزانه في شعره ولهوه ورسائله، فهو رجل يحاول البعد عن الصراعات الشخصية التي كثيراً ما تحدث بين الأقران، رغم أنه تولى الوزارة مع غيره من الأقران.