أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
خلال حوارنا في المساق السابق رأينا تلك المفارقة المتمثِّلة في أنَّ (أبا عُبيدة، مَعْمَر بن المثنَّى التَّيْمي، -209/ 210هـ= 824م)- الذي استشهد به (ابن فارس، -395هـ= 1004م) على إنكار أن يكون في لُغة «القرآن» مفردات غير عَرَبيَّة الأصول- ما لبث أنْ رجع عن قوله ذاك. فبدا كمن كان في سَكرةٍ فأفاق! فسألتُ محاوري (ذا القُروح):
- إذن، كيف قال (أبو عُبيدة): إنَّ مَن قال إنَّ في «القرآن» ما ليس من لُغة العَرَب، فقد أعظم وأكبر؟!
- لا بدَّ من تخريج! وهنا يتحوَّل بنا (ابن فارس)، من الحديث عن «القرآن» إلى الحديث عن العنصر العَرَبي. فقال- بعد أن خاب مسعاه، فلم يجد مناصًا من أن يسلِّم بقول (أبي عُبيدة)-: «القول، إذن، ما قاله أبو عُبيدة، وإنْ كان قوم من الأوائل قد ذهبوا إلى غيره.»
- فعلام أشغلتنا باللَّتِّ والعجن، يا (ابن فارس)؟!
- واضحٌ أنَّ فكرة (أولئك القوم من الأوائل) هي ما ظلَّ يحوك في صدر (ابن فارس)؛ لأنَّ ما وُجِد عليه الآباء عادةً ما ينشب غُصَّةً في الحلق يصعب تجاوزه! إلَّا أنَّه لا بُدَّ ممَّا ليس منه بُد! فليتجه ابن فارس إلى التأويل، ولو بارتباكٍ ظاهر، ليقول في تفسير قول (أبي عُبيدة): «تأويله: أنَّه [أي: من قال بمفردات غير عَرَبيَّة في القرآن] أتى بأمرٍ عظيمٍ وكبير.»
- وهذا تحصيل حاصل، وتفسير للماء بعد الجهد بالماء، يا (ابن فارس)!
- قال: «وذلك أنَّ القرآن لو كان فيه من غير لُغة العَرَب شيء، لتوهَّم متوهِّم أنَّ العَرَب إنَّما عَجَزَت عن الإتيان بمثله لأنَّه أتَى بلغاتٍ لا يعرفونها، وفي ذلك ما فيه.»
- الله أكبر! «وفي ذلك ما فيه»! تُرى ماذا فيه؟
- تحوَّلنا الآن، مع (ابن فارس)، من الحديث عن «القرآن» إلى الحديث عن العنصر العَرَبي: وأنَّ العَرَب لا يعجزهم الإتيان بشيء مطلقًا، حتى وإنْ كان ممَّا يجهلون!
- نعم، العَرَب، كسائر البَشر، يعجزون عن الإتيان بأشياء كثيرة. وكان ممَّا أعجزهم الإتيان بمثله «القرآن» نفسه، وهو بلغتهم، وهم لا يجهلونها، بل هي مهارتهم الأُولى، التي لا يُحسنون صناعةً كما يُحسنونها.
- بيدَ أنَّ التعصُّب العنصريَّ شيء، والتسليم بأنَّ الإنسان هو ابن بيئته، واللُّغة ابنة بيئتها، شأنٌ آخر. فلا يُعَدُّ استعمال كلمةٍ بلُغةٍ أجنبيَّة- تتعلَّق بمنتج ليس من بيئة مستعملها- عجزًا بيانيًّا، بل هو أمرٌ طَبَعي لا مفرَّ منه. إلَّا إنْ كان (ابن فارس) يعتقد أنَّ العَرَبيَّ كان يعلم الغيب، ويستعمل أسماء أشياء، وإنْ كان لا يعرف مسمَّياتها أصلًا. ولا غرو أنْ يعتقد ابن فارس بمثل هذا ما دام يقول بالتوقيف في اللُّغة، ومن ثَمَّ يجعل الإنسان شريكًا لله، منذ بدء الخلق، حسب العقيدة المانويَّة، كما أشرنا في مقال سابق.
- أتلك بسائط منطقيَّة، يبدو أنها كانت خارج العقل الخرافي، الذي دبَّج لنا بعض كتب التراث، كتلك الأبواب من نموذج كتاب «الصاحبي» لـ(ابن فارس)؟
- إنَّ القضيَّة هنا لا تتعلَّق بالعقل ولا بالمنطق فحسب، بل تبدو متعلِّقةً فوق ذلك بعقائد ملتبسة، فارسيَّة الجذور، وإنْ وُظِّفت ظاهرًا في المنافحات عن اللُّغة العَرَبيَّة و«القرآن الكريم». والحق أنَّ (أحمد بن فارس)، إلى هذا كلِّه، كان شديد التعصُّب لما عَلِم، شديد التعصُّب على ما لم يعلم. حتى إنَّه ليُنكِر أن يكون لغير العَرَب شِعر، أو قواعد شِعر، متنقِّصًا غير العَرَب غاية التنقُّص. وهذا حَيف وجهل في آن. فلا يعني اعتزاز المرء بلغته وثقافته تجريدَ الآخرين من الفضائل، لمجرد اختلافهم النوعيِّ عنه وعمَّا عَلِم أو أَلِف. وفي هذا إعراض عن آيات الله في تنوُّع خلقه في كلِّ شؤون الحياة، كما جاء في الآية: «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ.» قال (ابن فارس)(1): «وزعمَ ناس، يُتَوقَّفُ عن قبول أخبارهم، أنَّ الذين يُسَمُّون الفلاسفة قَدْ كَانَ لهم إعرابٌ ومؤلَّفاتُ نَحْوٍٍ. قال أحمد بن فارس: وهذا كلام لا يَعَرَّجُ عَلَى مثله. وإنَّما تَشَبَّهَ القوم آنفًا بأهل الإسلام، فأخذوا من كتب علمائنا، وغَيَّروا بعض ألفاظها، ونَسَبوا ذَلِكَ إِلَى قومٍ ذَوي أسماء مُنْكَرَةٍ، بتراجمَ بَشِعَةٍ، لا يكاد لسان ذي دِينٍ ينطق بِهَا. وادَّعوا مع ذَلِكَ أنَّ للقوم شِعرًا، وَقَدْ قرأناه فوجدناه قليل الماءِ، نَزْرَ الحَلاوة، غير مستقيم الوزن. بَلَى، الشِّعر شِعر العَرَب، ديوانُهم وحافظ مآثِرهم، ومُقيِّدُ أحسابهم. ثُمَّ للعَرَب العَروض الَّتِي هي ميزان الشِّعر، وبها يُعرَف صحيحه من سقيمه. ومَن عرفَ دقائقه وأسراره وخفاياه عَلِمَ أنه يُربي عَلَى جميع ما يبَجَحُ بِهِ هؤلاء الَّذِين يَنْتَحلون معرفة حقائق الأشياء، من الأعداد والخطوط والنقط، الَّتي لا أعرف لَهَا فائدة غير أنها، مع قِلَّة فائدتها، تُرِقُّ الدِّين، وتُنتج كلَّ مَا نعوذ بالله منه!»
- مَن قصدَ بالذين يُسَمَّون الفلاسفة؟
- لا ندري مَن قصدَ بهم. أهو يشير إلى (اليونان)؟ وكيف تشبَّهوا بأهل الإسلام وعلمائه قبل ظهور الإسلام بقرون طوال؟ بل تخطَّى هذا إلى تقبيح أسمائهم! وما علاقة «الدِّين» و«ذي الدِّين» بنُطق أسمائهم المنكرة أو عدم نُطقها؟! أَ وَمعيار التديُّن أن «لا يكاد لسان ذي دِينٍ ينطق بها»؟! إنَّه كلام أشبه بكلام العوامِّ، شديدي التحجُّر، والانغلاق عن غيرهم من الأُمم والشُّعوب.
- صحيحٌ أنَّ الشِّعر كان ديوان العَرَب، وحافظ مآثِرهم، ومُقيِّد أحسابهم، كما قال (ابن فارس).
- غير أنَّ هذا لا ينفي، لدَى ذي لُبٍّ، أنَّ للأُمم الأخرى، قديمة وغير قديمة، شِعرًا أيضًا. ومن تلكم الأُمم (الفُرس)، الذين إليهم ينتمي الرجل. أفكان يجهل شِعرهم وملاحمهم؟!
- وصحيحٌ أيضًا أنَّ للعَرَب (العَروض)، الذي فيه موازين شِعرهم الموسيقيَّة، وبه يُعرَف صحيح الشِّعر من سقيمه، كما ذكر.
- ولكنَّ للأُمم غير العَرَبيَّة أيضًا قواعد شِعرها المغايرة، ولها مميِّزاتها النوعيَّة، المعروفة منذ الإغريق وغير الإغريق، قبل ميلاد المسيح بقرون. فضلًا عن ضُروب الشِّعر، التي لم يعرفها العَرَب قط، وما ينبغي لهم، من شِعر مسرحي، وملحمي، وقصصي، وتعليمي، وهو ما لم يعرف منه العَرَب غير ضربٍ واحد، وهو الشِّعر الغنائي الذاتي.
- الطَّريف أنَّ (ابن فارس) يزعم أنه قد قرأ شِعر غير العَرَب، قائلًا: «وَقَدْ قرأناه فوجدناه قليل الماءِ، نَزْرَ الحَلاوة، غير مستقيم الوزن»!
- أفكان يظنُّ أنَّ وزن الشِّعر غير العَرَبيِّ سيستقيم له على عَروض الشِّعر العَرَبي؟ ليجد فيه ما ينتظره من الماء والحلاوة واستقامة الوزن؟! أمَّا قوله: إنَّ «مَن عرفَ دقائقه [أي العَروض] وأسراره وخفاياه عَلِمَ أنَّه يُربي عَلَى جميع ما يبَجَحُ بِهِ هؤلاء الَّذِين يَنْتَحلون معرفة حقائق الأشياء من الأعداد والخطوط والنقط، التي لا أعرف لَهَا فائدة غير أنها، مع قِلَّة فائدتها، تُرِقُّ الدِّين، وتُنتِج كلَّ مَا نعوذ بالله منه»، فمحض كلام عجوزٍ عقيمٍ، من عجائز العوامِّ، ممَّن يغطُّون عادةً تحت أطباقٍ مضاعفةٍ من الجهل والتعصُّب!
- واضح أنه يشير بـ«حقائق الأشياء من الأعداد والخطوط والنقط» إلى العلوم الطبيعيَّة، ولا سيما الرياضيَّات.
- وهو «لا يعرف لَهَا فائدة غير أنها، مع قِلَّة فائدتها، تُرِقُّ الدِّين، وتُنتِج كلَّ مَا نعوذ بالله منه!» ونحن كذلك نعوذ بالله من الجهل والعمَى، البالغ إلى هذا الحدِّ البائس من عدم المعرفة بفائدة العلوم الرياضيَّة، بل إلى توهُّم أنها «تُرِقُّ الدِّين، وتُنتِج كلَّ مَا نعوذ بالله منه».. ولله في خلقه شؤون!
- هذا، إذن، عالمنا النحرير (ابن فارس، عفا الله عنه)، بما كان يضرب فيه يَمنةً ويَسرة، من مهامه الادِّعاءات والمصادرات، سواء أكتبَ في شأن اللُّغة أم في غيرها. حاملًا عصاه الغليظة، ليضرب هنا وهناك، عاصِب العينين والعقل.
- تُرَى لو أنه استنَّ سنن علماء العَرَبيَّة الكبار، من أساتيذه وغيرهم- كـ(يونس بن حبيب)، و(الخليل بن أحمد)، و(سيبويه)، و(ابن جني)، و(عبدالقاهر الجرجاني)- أما كان أفاد، واحترم التخصُّص، وابتعد عن المزايدات، والمخاضات في ما يعلم وما لا يعلم، في خطابٍ بالغ الضيق والتشنُّج.
- إنَّ (عِلم نقد الرِّجال) لو أُخِذ به في ثقافتنا العَرَبيَّة كافَّة، لكفانا مؤونة هذه الصدمات المعرفيَّة والفكريَّة، حينما نقرأ لبعض أعلام تراثنا.
- أجل! ولقاربْنا الاهتداء إلى مَن نأخذ عنه لُغتنا وعلومها، محاولتَنا الاهتداء إلى مَن نأخذ عنه دِيننا. وهما عروةٌ وثقى واحدةٌ، لا انفصام لها. وفوق هذا، لربما تخفَّفنا من تركة هذا التراث الثقيلة، التي ما تزال أجيالٌ بعد أجيال تجترُّها، وتزكم بها العقول؛ إذ تستأنف ترَّهاتها العتيقة جذعةً، كلَّما ظنَّنا أنْ قد أفاق بنا صبحٌ جديدٌ من الوعي بالإنسان واللُّغة.
**__**__**__**__**
(1) يُنظَر: ابن فارس، (د.ت)، الصاحبي، تحقيق: السيد أحمد صقر، (القاهرة: عيسى البابي الحلبي وشركاه)، 76- 77.
** **
- (العضو السابق بمجلس الشورى- الأستاذ بجامعة الملِك سعود)