د.زكية محمد العتيبي
في رواية (موت صغير) يقدّم محمد حسن علوان نموذجًا إنسانيًا بالغ الثراء، يجعل من شخصية محيي الدين ابن عربي تجسيدًا لتيبولوجيا الإنسان الباحث، وفق مفهوم جورج لوكاتش للشخصية النمطية في كتابه ( الرواية التاريخية.)؛ فلوكاتش يرى أنّ الشخصية التيبولوجية لا تُعرَّف بفرديتها الضيقة، بل بقدرتها على تمثيل الوعي الاجتماعي لعصرها، بوصفها نموذجًا إنسانيًا تتجاوز تجربته الشخصية حدود الذات؛ ليصبح انعكاسًا لصراعات التاريخ وتحولاته. ومن هذا المنطلق تتبدّى شخصية ابن عربي في الرواية لا بوصفها استعادة لسيرة صوفي شهير، بل بوصفها بناءً فنيًا يستعيد صراع الإنسان مع ذاته ومع العالم، ويكثّف أسئلة الوجود في بنية سردية تتجاوز الزمن.
إنّ رواية (موت صغير) لا تُعنى بإعادة تدوين الوقائع التاريخية، ولا تلتزم بالمنهج اللوكاتشي الصارم في الرواية التاريخية، لكنها في الوقت ذاته تشكّل فضاءً مثاليًا لنشوء نموذج إنساني تُعيد من خلاله الرواية تأويل شخصية ابن عربي عبر منظور تيبولوجي؛ إذ يتحرّك ابن عربي في النص كباحثٍ عن معنى دائم الانفلات، وككائن لا يتشكّل إلا عبر الرحلة، والرحلة هنا ليست انتقالًا جغرافيًا بين الأندلس وغيرها من المدن، بل مسار وعي تتكوّن فيه الذات عبر الاحتكاك بالعالم، وبالتحوّلات التي تهز المدن الإسلامية في زمنٍ مضطرب؛ فالتاريخ في الرواية ليس خلفية محايدة، بل قوة فاعلة تشكّل الذات وتدفعها إلى التغيّر، وهو ما يوافق رؤية لوكاتش التي ترى أن الشخصية لا تُفهم إلا من خلال صراعها مع البنية التاريخية والاجتماعية التي تعيش فيها.
ورغم أنّ ابن عربي شخصية واقعية، إلا أنّ علوان لا يقدّمها كتجسيد حرفي للسيرة، بل يعيد تشكيلها بوصفها رمزًا للإنسان الذي لا تُحدّده هوية مغلقة، بل هوية تتوسّع مع التجربة.
تتقاطع في هذا النموذج التيبولوجي ثلاث طبقات وجودية: الذات الحسيّة التي تشكّل البداية، والذات الرحّالة التي تنفتح على العالم وتكتشف هشاشتها، والذات الكونية التي تحاول إعادة صياغة وجودها من خلال العلاقة مع المطلق، وهذه المراحل لا تُقرأ كتحوّلات فردية خاصة بابن عربي وحده، بل كمسار يمكن أن يعبّر عن كل إنسان يفتّش عن خلاصه الخاص وسط فوضى العالم.
هنا تتجلى التيبولوجيا في أبهى صورها حيث الشخصية الفردية التي تتحوّل إلى نموذج إنساني قابل للتكرار، معبّر عن صراع يتجاوز حدود التاريخ.
ويبرز في الرواية بوضوح الصراع بين الداخل والخارج؛ فثمة توتر دائم بين التجربة الروحية وما تحمله من رغبة في التجاوز، وبين البنية السياسية والعسكرية التي تتصدّع فيها المدن، وتنهار فيها الممالك، وتتشظى فيها الحياة العامة.
إنّ هذا التوتر يجعل من الذات موتا صغيرا علاوة على الحبّ؛ ذاتًا إنسانية بالدرجة الأولى، تبحث عن التوازن بين معرفة العالم وتحمّل ألمه، وبين الانجذاب إلى المطلق، والانغماس في التفاصيل اليومية.
ولا يتعامل علوان مع التصوف كطقس معزول، بل كحاجة وجودية نابعة من سؤال المعنى؛ ولذلك فإن الذات الصوفية في الرواية ليست متعالية تنسحب من العالم، ولا منهارة تهرب منه، بل ذات تتفاعل معه، وتنهض من خلاله، وتبني وعيها عبر الألم والانكسار وإعادة التشكل.
أما المكان في الرواية فهو عنصر تكويني لا مجرد بيئة سردية؛ فكل مدينة تمنح ابن عربي جزءًا من نفسه، وتكشف طبقة جديدة من وعيه، حتى يصبح المكان مرآة للذات والجغرافيا دراما داخلية تتفاعل مع مسار الرحلة، وهنا يكتمل البناء (التيبولوجي) كما تصوره لوكاتش في كتابه( الرواية التاريخية) فهو – عنده-تلازمٌ بين الداخل النفسي والخارج التاريخي، وبين حركة المكان وحركة الوعي، وبين ما يعيشه الفرد وما يعيشه المجتمع.
من خلال هذا البناء المعقّد، يتحول ابن عربي في الرواية إلى نموذج يمثل أزمة الروح في عالم مضطرب، وصراع الإنسان مع قدره، وعلاقة المعرفة بالألم.
إنه ليس مجرد شخصية من الماضي، بل إنسان نموذجي يختزل أسئلة الوجود التي لا تنفكّ تتكرر في كل الأزمنة: سؤال الطريق، وسؤال الحقيقة، وسؤال المعنى. وبذلك لا يقدم علوان رواية عن الماضي بقدر ما يكتب أنطولوجيا سردية للإنسان الباحث، ويمنح القارئ فرصة لرؤية الذات بوصفها مسارًا متحوّلًا، لا كيانًا مكتملًا، وكيانًا يُعاد تشكيله باستمرار في مواجهة العالم.
وعليه يمكن القول: إن (موت صغير) قد تجاوزت السيرة إلى بناء نموذج إنساني يتسق تمامًا مع مفهوم التيبولوجيا عند لوكاتش، حيث تصبح الشخصية الروائية أكثر عمقًا وصدقًا من الشخصية التاريخية؛ لأنها تجسّد قوانين الوجود الإنساني؛ فهي رواية تستعيد الماضي لتتكلم عن الإنسان المعاصر الذي يظلّ رغم كل التحولات باحثًا عن معنى أكبر من ذاته.
** **
- أستاذة النقد والبلاغة