أ.د.صالح معيض الغامدي
ألقيت في الندوة التي أقامها كرسي غازي القصيبي بالتعاون مع كرسي الأدب السعودي عام 2014م حول (غازي القصيبي: الإنسان والإنجازات) ورقة بحثية بعنوان «قلق السيرة الذاتية عند القصيبي» ملخصها أن القصيبي كان يتجاذبه شعوران متعارضان: شعور بالرغبة الملحة في كتابة سيرته الذاتية وشعور بعدم القدرة على إنجاز مشروعه دفعة واحدة، لذلك كتبها موزعة متشظية حسب المجالات التي ارتآها، فكتب عن سيرته في العمل الإداري في كتابه «حياة في الإدارة»، وسيرته في العمل الدبلوماسي في «سعادة السفير» و«الوزير المرافق»، وسيرته الأدبية في «سيرة شعرية»، وحياته الدراسية في مصر «شقة الحرية»، وحياته الدراسية في أمريكا في «سائح إلى كلفورنيا».
وقد حاولت تفسير هذا الأسلوب المتشظي لكتابة السيرة الذاتية برده إلى عدة أسباب محتملة أهمها القلق أو التردد الذي كان يعانيه القصيبي من فكرة كتابة سيرته دفعة واحدة في كتاب واحد. وقد لاحظت في أبحاثي اللاحقة أن هذا الموقف النفسي العاطفي المتردد من كتابة السيرة الذاتية يحضر في كثير من السير الذاتية وبخاصة في مقدماتها إلى درجة أنه يشكِّل ظاهرة لافتة للانتباه في السيرة الذاتية السعودية التي يكتبها الكتَّاب والكاتبات على حد سواء. وبعد تأمل لهذه الظاهرة ودراستها قدرت أن المصطلح المناسب لها ربما يكون مصطلح «رهاب السيرة الذاتية» أو «رهاب البوح»، ويمكن تعريفه بأنه هو «الرغبة الملحة في كتابة السيرة الذاتية مع الخوف الشديد من عواقب كتابتها ونشرها».
وهذا الرهاب يصور الصراع الإنساني الدائم بين الرغبة في البوح والتعبير عن ذاته من جهة، والخوف من تعريتها وإخضاعها للتقييم من جهة أخرى، وكأن النفس فيه تتوق إلى أن تُقرأ وتُفهم، لكنها في الوقت ذاته تخشى أن تُحاكم أو يساء فهمها.
وليس لهذا الرهاب أو التردد في كتابة السيرة الذاتية شكل تعبيري واحد، بل نجده يرد بأشكال وأساليب وصيغ مختلفة، لا مجال لتعديدها هنا، وقد بيَّنت بعضها في دراسة لي سابقة عن السيرة الذاتية النسائية السعودية.
وعلى الرغم من أن هذا الرهاب قد يكون نتيجة للصراع الخارجي بين الذات الكاتبة لسيرتها ورغبتها الملحة في الكتابة والآخر القارئ لها والتخوف من سوء فهمه لها وحكمه عليها وربما تشويهه إياها، فقد يكون أيضاً بين الذات الكاتبة وذاتها عندما تصبح الذات الكاتبة نصاً مكتوباً تواجه ذاتها، وتسأل: هل أنا حقاً هذه الذات المكتوبة؟
وفي كثير من الأحيان يكون منشأ هذا القلق من كتابة السيرة الذاتية هو التفكير في ردود أفعال المجتمع والخوف من تجاوز محظوراته وقيمه أو عدم الوفاء بتوقعاته من كتابة السيرة الذاتية، أو الخوف من الإساءة إلى بعض الأقرباء والأصدقاء دون قصد، أو الخوف كذلك من بعض التبعات القانونية والحقوقية التي قد تلاحق كاتب السيرة الذاتية.
هذه فقط بعض أسباب هذا الرهاب السيرذاتي وتجلياته في السيرة الذاتية، وإلا فإن ثمة أسباباً ومظاهر أخرى كثيرة له يمكن للمهتم تتبعها في كتب السيرة الذاتية السعودية.
ونود أن نختم هذا المقال بطرح السؤال التالي: ألا يمكن أن يؤدي الشعور بهذا الرهاب من السيرة الذاتية أو البوح عموماً وظيفة إيجابية في كتابة السيرة الذاتية؟ فعوضاً عن أن يكون عائقاً يمنع كتابتها ونشرها، فإنه قد يكون المحرك الرئيس لكتابتها وتجويدها، فالموازنة بين التعبير عن الذات بحرية وتفادي كثير من معوقاتها الخارجية والداخلية قد يقود الكاتب إلى ابتكار بعض التقنيات والأساليب السردية التي تحقق له ما يرغب في تحقيقه من كتابة سيرته الذاتية دون مصادمة ذاته أو مجتمعه بالضرورة، والدليل على ذلك أن كثيراً من كتَّاب السيرة الذاتية يقررون، بعد ترددهم وحيرتهم، كتابة سيرهم الذاتية على أي حال!