إبراهيم بن سعد الحقيل
الطوارق: جمع «طارق»، وهو ما يَطْرقُ سمعَكَ من خيرٍ أو شرٍّ. وأصلُهُ أنَّ القاصدَ بخَبَرٍ من خيرٍ وشرٍّ يَطْرقُ بابَكَ، أو يطرقُ نِدَاءَهُ سمعَكَ، فمن ثَمَّ سُمِّي كلُّ ذلك طَوارِقٌ. وكانت العربُ تتعوَّذُ من طوارق السُّوْءِ. وما زالت الطَّوارقُ تَنْمُو وتَرْبُو على تطاولِ الأزمان؛ حتَّى كثُرَتْ وطمَّتْ في زمننا هذا، بفِعْلِ هذه الأجهزة والتَّطْبِيقَاتِ التي أصبحت مِن لَوازِمِ الحياة، فإذا فَقدْتَ جهازَكَ الجوَّالُ تفقدُ معه حياتَكَ الافتراضية، وإنْ بَقِيتَ جَسَداً لكنه جسدٌ يُحِسُّ بالضَّياع والتَّيْه.
بقَدْرِ ما سهَّلت هذه الأجهزةُ والتطبيقات حياتنا سبَّبت لنا صُداعاً في الرُّؤوس، وحُرْقةً في العيون، وقَلَقاً مُتَّصِلاً، والقلق أشدُّ هذه الأدْوَاءُ. فأنتَ في النهار تحملُ القلقَ في جيبك، وفي الليل تخلدُ إلى النوم، فيكون القلقُ قُربَ رأسِكَ، وكأنه يَرْقُبكَ متى تنهضُ ليَفْجَأكَ بقَلقٍ جديدٍ تبدأُ به يومَكَ. وقديماً عَلَّم جبريلُ u رسول الله ? يوم أُسري به دعاءً طويلاً، فيه استعاذَةٌ «مِن فِتَنِ الليلِ والنهار، ومِن طَوارقِ الليلِ والنهار». هذه الاستعاذة صارت أشدَّ إلحاحاً في زمننا المُتْرع حتى الثَّمالة بدواعي القلقِ والتَّوجُّس من الطوارق المُقْلقَة. كيف لو أدركَ عُبَيد بن أيوب العنبري هذه التقنيات والتطبيقات وهو القائل:
عَوَى الذِّئبُ فَاسْتأنَسْتُ للِذَّئْبِ إذْ عَوَى
وصَوّتَ إِنْسَانٌ فَكِدْتُ أَطِيرُ
لا أشك طرفةَ عَيْنٍ أنه سيمُوْتُ رُعْباً، مع أنه يَسْتأنِسُ بالذئب، وقد يدركه ذئبُهُ فيَلْحَقُ به ميِّتاً.
إن الطريق الذي يهوي بنا في مَعْمعَةِ القَلقِ ليس طريقاً واحداً، بل طُرُقٌ مُتعدِّدةٌ. فالحياة التي لا تَهْدأ، والأخبارُ التي تسري في كل وقتٍ بكل مُفْزعٍ مُرِيعٍ؛ حُروبٌ وفِتَنٌ وقَتْلى، وسُرعةُ التغييرِ التي تطوي الأيام طيًّا، حتى أصبحت السَّنةُ شهراً، واليوم ساعةً، والساعة دقيقة، جعلت هذه الطَّوارقُ التي كانت فيما مضى تزحفُ على بطنها زحفاً لتَصِلَ؛ تَطِيرُ كطائرة أسرعَ من سرعة الصوت. أينَ هذه الطوارقُ المُتطايرَةُ عن عِمْرانَ بن حِطَّان الذي مكثَ سنةً لا تُروِّعُهُ الطَّوارِقُ؟ حتى قال:
قدْ كُنْتُ ضَيْفكَ حَوْلاً ما تُرَوِّعُنِي
فيْهِ طَوَارِقُ مِن إنسٍ ولا جَانِ
لم يَعُد يَغِبْ عن أسماعنا وأبصارنا ممَّا يجري مِن دَقِيقِ الأُمُورِ وجليلها شيء، فهي تَغُبُّ إلينا حتى لا تكاد تُفارِقُنا، فهي كما قال أبو فراس في سجنه وقد أُسِرَ:
ومَا أغْرَبَتْ فِيْكَ اللَّيَالِي فإنَّها
لتَصْدَعُنَا مِنْ كُلِّ شِعْبٍ وتَثْلِمُ
طَوَارِقُ خَطْبِ ما تَغُبُّ وُفُوْدُها
وأحْدَاثُ أيَّامٍ تُغِذُّ وتُتْئِمُ
بل إنَّ بعضنا تَدْهَمُهُ الطَّوارقُ في أحلامه، فلا يهنأُ نومُهُ، ولا يقرُّ قرارُهُ، وكأن أبا العلاء يعلمُ عِلْمَهُ حينما قال:
إلى اللهِ أشْكُو أنَّنِي كُلَّ لَيْلةٍ
إذا نِمْتُ لم أعْدَمْ طَوَارِقَ أوْهَامِي
وليتها وقفت عليها أحلاماً، بل هي:
فإنْ كان شرًّا فهوَ لا شكَّ وَاقِعٌ
وإنْ كان خيراً فهو أضْغَاثُ أحْلامِ
والمصيبةُ أنّ هذه الطَّوارق التي تَطْرُقنا صباح مساء جُلُّها ممَّا لا يخفى أو مُتوقَّعٌ، كما قال أبو فراس:
فمَا عَرَّفَتْنِي غَيْرَ ما أنا عَارِفٌ
ولا عَلَّمَتْنِي غَيْرَ ما أنا عَالِمُ
وأمرٌ آخر أنّ طَوارِقَ الأيام مُتشابِهَةٌ، تَدْلفُ إليك بوَجْهٍ واحدٍ مثل وُجُوهِ التوائم، فلم تَعُدْ كما قال كلثوم بن عمرو العَتَّابيُّ أبْكَاراً:
مُقِيْمٌ بمُسْتَنِّ العُلَا حَيْثُ تَلْتَقِي
طَوَارِقُ أبْكَارِ الخُطُوْبُ وعُوْنُها
ومع أنها متوقعة إلّا أن لها أثراً في النفوس يجاوزُ قَدْرَها حقيقةً، لكنها النفوسُ التي أنهكها رنينُ الهواتف، وتناقل الأخبار، ورسائل التَّنْبيهِ الجَوَّاليَّةِ التي تَخْشَى منها أشدَّ من خَشْيةِ ثُعبان مُترصِّد.
تلك الخشية تَدْهمُكَ ألَّا يَتسلَّلَ منها لصٌّ من اللصوص الذين لم يَعُوْدُوا يَكسِرُونَ الأقفال والأبوابَ، ويَدُّسونَ أيديهم في الجيوب، بل أصبحَ بينكَ وبينهم أرضٌ وبحرٌ، يَسْطُونَ على معلوماتك فيعيثون في حياتك فَسَاداً وإفسَاداً، لا تَمْلكُ له ردًّا. ولعل هذا جعل أمْثالنا ممَّن كَسَا الشَّيبُ لحاهم ورُؤوسَهُم أشدَّ خَشْيةً وقَلَقاً، فهُم وإن حَملُوا تلكَ الأجهزة الحديثة أشدُّ جهلاً بها مِن جَهْلِ الفتى اليافع بالتَّابِعِيَّة الخضراء، والملف العلاقي الأخضر، وتَذْكِرة المراجعة. وفوقَ ذلك تبقى قَلِقاً مُتوجِّساً مِن مُخالفة ساهر تَدْهَمُكَ، وتَنْبِيهٌ بقُربِ انتهاء تأمين سيارتك، أو مشارفة إقامة العاملة المنزلية على الانتهاء، أو استمارة سيارة، وشرٌّ منها رسالةٌ تأتي على غيرِ استحياء من المدرسة الأهلية تُذكِّركَ بدفع ال رسوم لآخر العنقود، وأحياناً قائمة مَطالِبَ ممَّن لا تملكُ لها ردًّا ولا دَفْعاً، تُذكِّركَ في آخرها بأنكَ إنْ لم تأتِ بها سيكون يومُكَ ولَيْلُكَ صِفْرَ اليدين من طعامٍ وشَرابٍ، وغير ذلك مما لا يُحْصرُ ولا يُعَدُّ، فلا تدري بأيِّها تبدأ، المُحصِّلة أن جيبكَ سيُعْصَرُ لآخر ريالٍ بل قرش.
وأشدُّ من ذلك رسائلُ الواتس آب، الذي هي دَلْوُ مَاءٍ ودلو طِيْنٍ، فهي كما قال سعيدُ بن سليمان المُسَاحِقيُّ، وقد مرضَ ببغدادَ، ومعَهُ مولًى له يُسمَّى دَاهِر، كان يُعلِّلُهُ بالحديث بعدَ الحديث، فقال سعيدٌ:
وما كُنْتُ أخْشَى أنْ أُرَانِيَ رَاضِياً
يُعَلِّلُنِي بعدَ الأحِبَّةِ دَاهِرُ
يُحَدِّثُنِي ممَّا يُجمِّعُ عَقْلُهُ
أحَادِيثُ مِنْها مُسْتقِيْمٌ وجَائرُ
وأشدُّ وأنْكَى من أحاديثُ داهر المُتشَكُّوْن والمُتشائِمُونَ، الذين لا يُبْقونَ للأملِ بَصِيْصاً، وكأنّهم خُلِقُوا للشكوى والتَّشاؤُمِ، فلا يُذكِّرُكَ إلَّا بما يُقْلقُكَ، ولا يُحَادِثُكَ إلّا بما يفزعك، ينقلُ لك مصائبَ حدثت في المشرق والمغرب، ممَّا طالع أو سَمِعَ. والمصاعب التي يُواجِهُها؛ كبيرها وصغيرها، والإشاعات التي لا تعلم قبيلها من دبيرها، فكأنك تُجالس ابنَ الرُّومي بل أرْذَل، فابن الرومي على تشاؤمه وكثرة شكواه أديبٌ شاعر، يُفيدكَ أدبا وعلماً، وتسمعُ منه شعراً رائقاً، مع أن ابن الرومي يُغالبه السُّكُونُ، حتى تظن أنه نائم، وهكذا ظنته ابنة صغيرة لعُبيد الله بن طاهر، فقال يردُّ عليها:
وشَقِيْقةٍ قالتْ أرَاهُ مُفَكِّراً
حتَّى أرَاهُ مِن السِّكِينَةِ نَائِما
ولعل أبو نُواس السَّادِرُ في لُجج الملذات في هُدُوء وسُكون يُعلن البراءَةَ من قوله:
أيُّ فَتًى في أُفُقٍ
ورُوْحُهُ في أُفُقِ
ولمْ يُرِحْهُ قَلَقٌ
حتَّى غَدَا ذَا قَلَقِ