هدى بنت فهد المعجل
تبدو رواية «غوّاصو الأحقاف» للوهلة الأولى عملاً عن البحر والغوص وذاكرة المكان، لكنها في الحقيقة رواية تنبع من طبقات أعمق؛ طبقات نفسية وفلسفية تجعل القارئ يشعر بأنه يسير بين ضفتين: ضفة الواقع المروي وضفة الرموز التي لا تُقال مباشرة. إنها رواية لا تصف المكان، بل تتنفس من خلاله؛ فالأحقاف ليست خلفية للأحداث، بل كائنٌ متخفٍّ، له صوته وحضوره، يتحرك بين السطور ويعيد تشكيل مصائر الشخصيات.
في هذا النص، يلعب المكان دورًا جوهريًا؛ فهو ليس مجرد مسرح للأحداث، بل ذاكرة حيَّة تفتح ثم تغلق أبوابها على حسب مزاجها. الصحراء التي تمتد بلا نهاية تبدو وكأنها مرآة للاوعي الجمعي؛ مساحة تتراكم فيها القصص التي لم تُرو، والخرافات التي تكوّنت من خوف الناس أكثر مما تكوّنت من الواقع. في المقابل، يظهر البحر كقوة مضادة: فضاء لا يمكن الوثوق به، يعطي بيد ويأخذ بالأخرى، يرمي على الشاطئ ما يريد كشفه، ويبتلع ما يريد إخفاءه. يتعامل النص مع هذين المكانين كقطبين متناقضين: الصحراء ذاكرة دفينة، والبحر ذاكرة تعود رغم محاولة دفنها.
الشخصيات في الرواية تتنقَّل بين هذين الفضاءين وهي تحمل أسئلتها، لا أدوارها. كل شخصية تبدو مشدودة إلى شيء ضائع، شيء يشبهها لكنها لا تعرف كيف تصفه. تعيش هذه الشخصيات في حالة افتقاد دائم؛ افتقاد لجذورها، للخلاص من إرث ثقيل، ولصوت داخلي يوضح لها من تكون. إنها شخصيات تتحرك وكأنها تبحث عن معنى كان يومًا واضحًا لكنه تلاشى تحت رمال الزمن. ورغم تعددها، يجمعها خيط واحد: الرغبة في ألا تتكرر المصائر القديمة، والسعي للخروج من الحكايات التي فرضها الماضي عليهم دون أن يستأذن.
البحر في الرواية ليس مجرد عنصر بيئي، بل رمز للامتحان الوجودي. الغوص هنا ليس مهنة؛ إنه فعل مواجهة. كل غطسة هي مواجهة بين الإنسان ونفسه، واختبار لمدى قدرته على الصمود أمام ما لا يمكن التنبؤ به. البحر يعيد تشكيل الشخصيات، يكسر وهم القوة، ويُظهر أن الإنسان مهما حاول إخفاء ضعفه، سيعود الماء ويكشفه. وهنا يتجاوز البحر دوره الجغرافي ليصبح معلمًا صامتًا، يعطي دروسه عبر الخسارات أكثر مما يعطيها عبر المكاسب.
أما الصحراء، فحضورها الهادئ الظاهر يخفي عاصفة داخلية. إنها ليست مساحة فارغة كما تبدو، بل هي موضع الصمت الثقيل الذي يخشى الجميع الدخول فيه. في الصحراء، تنكشف الشخصيات أمام نفسها أكثر مما تنكشف أمام الآخرين. تصبح الرمال بمثابة أرض النفس الأولى؛ تلك التي نحاول تغطيتها بطبقات من الانشغال، لكنها تظل قابلة للظهور كلما هبّت عليها رياح السؤال. وفي مقابل قسوة البحر الجسدية، تأتي الصحراء بقسوتها النفسية؛ فالبحر يعاقب الجسد، بينما الصحراء تعاقب الروح.
الزمن في «غوّاصو الأحقاف» لا يسير بخط مستقيم. إنه زمن حلزوني، يعود بالشخصيات إلى ماضيها كلما حاولت الفرار منه. تقنية الفلاش باك ليست مجرد أداة فنية، بل هي انعكاس لواقع نفسي: الذاكرة هنا أقوى من الحاضر، وأكثر حضورًا من المستقبل. لا يعيش أبطال الرواية زمنًا واحدًا، بل أزمنة عدة؛ لكل منهم ماضٍ يستيقظ كلما حاولوا إغلاقه. وهكذا يصبح الزمن ذاته شخصية ضمنية في النص، شخصية تمتد بين البحر والصحراء والمدينة، وتجمع الثلاثة في شبكة واحدة من التوتر الداخلي.
أسئلة الهوية تظهر بوضوح في أعماق النص. من نحن حين نُجبر على حمل إرث لا نعرف إن كان يخصنا حقًا؟ هل يتحدد الإنسان بالمكان الذي وُلد فيه، أم بالجراح التي يحملها، أم بالاختيارات التي تمكن من اتخاذها رغم كل شيء؟ الرواية لا تقدم إجابة، لكنها تلمّح إلى حقيقة مهمة: الهوية ليست كشفًا يحدث مرة واحدة، بل صيرورة طويلة، يُعاد تشكيلها كلما تغيّر الإنسان. وفي ظل هذا الصراع، تصبح الأحقاف رمزًا للثقل التاريخي، بينما يصبح البحر رمزًا للتغيير وإن كان مؤلمًا.
تمتلئ الرواية بالرموز التي تفتح أبوابًا من التأويل. اللؤلؤ ليس مجرد غنيمة ثمينة؛ إنه الحقيقة التي تنكشف فقط لمن يجرؤ على النزول إلى الأعماق. الغوص فعل استبطان، والصعود إلى السطح عودة إلى الوعي بعد مواجهة الذات. الرياح رسائل، والماء تطهير، والرمال نسيان مؤقت. كل عنصر في الرواية يحمل معنى أكبر من دوره الظاهر، وكأن اللغة تتكلم بلغتين في الوقت نفسه: لغة الحكاية، ولغة الروح.
في عمقها النفسي، الرواية ليست عن البحر ولا الصحراء، بل عن الإنسان حين يُختبر في قدرته على مواجهة صدى داخله. إن القلق الذي تتركه الأحداث لا يأتي من الخطر الخارجي، بل من خوف الشخصيات من أن تصادف حقيقتها فجأة. والرواية تعكس هذا الاضطراب باحتراف؛ فكل حدث فيها يكشف بعدًا من جوانب الصراع بين الانتماء والحرية، بين الذاكرة والرغبة في نسيانها، بين ما نرثه وما نحاول إعادة بنائه بأنفسنا.
وفي طبقتها الفلسفية، يبدو الغوص مجازًا كاملًا للوجود. فالحياة في الرواية تشبه عملية الغوص: تحتاج شجاعة للدخول في المجهول، وتحتاج نفسًا طويلًا لتجاوز ما قد يواجهك، وتحتاج لمهارة للعودة إلى السطح دون أن تفقد جزءًا منك. وبينما يقدّم البحر دروسًا في هشاشة الإنسان وقوته في آن، تظل الصحراء مكان الأسئلة الثقيلة التي لا تُجاب بسهولة.
باختصار يتضح أن «غوّاصو الأحقاف» ليست رواية تُقرأ مرة واحدة، لأنها ليست رواية تعتمد على حدث، بل على حالة. إنها نص يفتح بوابات التأمل، يدعو القارئ للبحث عن الأماكن التي خَبّأ فيها جروحه، وللتساؤل عمَّا يرثه من تاريخٍ لا يعرف إن كان قادرًا على حمله. الرواية تقدّم الإنسان في صورته الأكثر صدقًا: كائنًا يبحث، يفقد، يحلم، ويتأمل أماكنه الداخلية قبل أن يتأمل الأمواج والرمال.