أ.د. محمد بن عبدالعزيز العميريني
يمثّل النحو العربي القديم إحدى الركائز الكبرى في تاريخ التفكير اللغوي، إذ استطاع النحاة الأوائل من خلال أدواتهم المعرفية وطرائقهم الاستقرائية، أن يشكّلوا نموذجاً تحليلياً قادراً على دراسة الظاهرة اللغوية، وتحليل جوهرها ضمن بنية منهجية شديدة الدقة، ومع ظهور اللسانيات الحديثة في القرن العشرين، بدا أن ثمة تقاطعات عميقة بين ما انتهت إليه المدارس البنيوية والتوليدية والتحويلية، وبين ما اشتغل عليه التراث النحوي العربي في صياغة اللغة وقوانينها، وضبط مستوياتها الصوتية والصرفية والدلالية.
لكن من الواضح أن مشكلة اللسانيات الحديثة تكمن في أنّها تحاول أن تبحث لها عن جذورٍ أو عمقٍ معرفيّ بعيداً عن التراث النحوي القديم، وكأن هذا التراث مجرد مرحلة تاريخية لا تصلح لتأسيس معرفة جديدة، بينما الحقيقة أنّ العقل النحوي العربي امتلك من الأسس الفلسفية، والصرامة المنهجية، والوعي التجريدي ما يجعل كثيراً من المناهج اللسانية المعاصرة تبدو – في جوهرها – إعادةَ صياغةٍ لمفاهيم سبقت الإشارة إليها في تراثنا النحوي الأصيل، لكن بلسانٍ آخر وإطارٍ مفهومي جديد، مع اختلاف في المصطلحات، واتفاق في الجوهر والمضمون.
إنّ هذا الانفصال غير المبرَّر بين اللسانيات الحديثة وأصلها العميق في النحو العربي لا ينتج معرفة أصيلة، بل يخلق قطيعة معرفية مصطنعة، تجعل الفكر اللساني المعاصر يتحرك في فراغٍ منهجي، ويعيد اكتشاف ما اكتشفه النحاة الأوائل لكن دون الاعتراف بالمدوّنة التي مهّدت له، فاللسانيات حين تتجاهل مثلاً أعمال أبي الأسود الدؤلي، وابن ابي إسحاق، والخليل بن أحمد، وسيبويه، والفارسي، وابن جني، وغيرهم من جهابذة النحاة، فإنها لا تقطع الصلة بالماضي فحسب، بل تفقد القدرة على رؤية المستقبل بمنهج واضح.
وقوة التراث النحوي ليست في كونه مادة لغوية قديمة، بل في كونه منطقاً دقيقاً للتحليل، ونموذجاً لتفكيك العلاقات، ونظريات مؤسسة لفهم العلاقة بين البنية والمعنى والسياق، وكل مشروع لساني يتجه نحو الاكتشاف والتحليل، وبناء النظريات لا بد أن يكون له امتداد تراثيّ يُعاد تأويله وتوظيفه في ضوء حاجات العصر.
ويبدو لي أن أزمة اللسانيات الحديثة ليست فقط في بعدها عن التراث، بل في عجزها عن استثمار هذا التراث وتشكيله ليكون طاقة منهجية، قادرة على وصل الماضي بالمستقبل، وتوليد نظرية لغوية عالمية تُشكّل مشروعاً معرفياً أصيلاً ينهض على جذور عميقة ورؤية نقدية جديدة.
وحتى لا يغدو كلامي نظرياً صرفاً أو بعيداً عن إثبات واقع التأثر، فإن المطلع - مثلاً - على منهج سيبويه ونظرته إلى الجملة بوصفها شبكة من العلاقات: علاقة الفعل بالفاعل، وعلاقة الخبر بالمبتدأ، وعلاقة التقديم بالتأخير، وتفاوت درجات العمل، واختلاف تأثير العامل في المعمول، يُدرك أن هذا المنظور النسقي هو نفسه ما أكدته لاحقاً اللسانيات البنيوية التي تعد اللغة نظاماً من العلاقات يُفسَّر داخلياً، بحيث لا تُفهم الكلمة إلا في موضعها ووظيفتها وعلاقتها بما حولها، كما أفادت تلك الدراسات من منهج سيبويه في تأسيس فكرة العلاقات التركيبية بوصفها الوحدة الأساسية للتحليل، فالتحول من تحليل اللفظ إلى تحليل العلاقة هو حجر الأساس في كل من التفكير البنيوي والنحو التراثي على حد سواء.
كما أن النحو العربي عبر مفاهيم مختلفة مثل: تقدير المحذوف، والعامل، والنية التركيبية، تعامل مع الظاهرة اللغوية على أساس وجود عنصر منطوق وعناصر غير منطوقة ضرورية للتفسير، وهذه الفكرة النموذجية ظهرت في اللسانيات التوليدية في شكل البنية العميقة التي تُعدّ المستوى الأولي الذي تُشتق منه الجملة السطحية.
وقد أثبت النحو العربي نجاحه في ممارسة التجريد بدرجة لافتة من خلال الانتقال من الأمثلة المتفرقة إلى صياغة قواعد عامة تتجاوز النصوص الجزئية، وهو ما عُرف في التراث النحوي بالظواهر العامة التي تشكلت من مجموع النصوص التي تربطها علاقات التشابه أو التقارب أو التناقض أحياناً، وعلى هذا الأساس ظهر في اللسانيات الحديثة ما يسمى بــ(القواعد التوليدية) التي طورها تشومسكي، وتهدف إلى صياغة آليات قادرة على إنتاج عدد لا نهائي من الجمل.
وأدرك النحو العربي منذ نشأته أن القاعدة لا تُطبق دائمًا بصورة صارمة، وأن اللغة تحتوي على أنماط مختلفة من التوسع من خلال الإفادة من أحكام القياس وتفاوت السماع، والعدول عن الأصل والرجوع إليه، وهي رؤية تتوافق مع نظريات اللسانيات الحديثة المتعلقة بالاحتمال اللغوي، والقيود النسبية، والاختلاف داخل النظام الواحد.
وبناء على هذه المظاهر المختلفة لتأثير النحو العربي في الدرس اللساني الحديث يمكن القول إن النحو العربي قد مارس أبرز خطوات المنهج التجريبي في اللسانيات، من خلال: جمع الشواهد، وتحليلها، وترتيبها وفق الظاهرة، واختبار القاعدة، وتقويم الفرضيات.
وربما لا أكون مجانباً للصواب حين أقول بأن النحو العربي لم يكن علماً خاصاً بلغة معينة، بل كان عمقاً معرفياً قادراً على خدمة البحث اللساني حتى اليوم، وأن اللسانيات الحديثة لم تستفد من النحو العربي على مستوى الاقتباس فحسب، بل على مستوى التفكير العلمي نفسه.