سليم السوطاني
وُلِدتْ فكرة مقالتي هذه عندما قرأتُ كتاب «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي» لـ«ميشيل فوكو»، فقد تحركت بعض التساؤلات الراكدة في عقلي؛ عن ماهية الجنون، وتحديدًا عن كلمة «الجنون» التي نستخدمها كثيرًا في حياتنا.
الجنون ليس مقتصرًا على من يفقد عقله ويهيم في الشوارع بثياب متسخة وممزقة، وقد يتعرّى أمام الآخرين من دون حياء، تحت غطاء اللا أهلية، ويرفع الحرج عنه أمام العقلاء...
أتساءل: ما الذي يدفع بعض الشباب إلى قيادة سيارته بسرعة جنونية، وقد يودي بحياته؟ أليس هذا ضربًا من الجنون؟ ومثل ما ورد في كتاب «فوكو» أن الحماقة تعد جنونًا.
الجنون أمر وارد يحدث لكل النَّاس الطبيعين، فهو يقبع داخل النفس، وقد يظهر في أي وقت أمام العلن، وتحت أي تأثير يدفعه إلى إظهار جنونه، وقد يؤذي نفسه ومن يحيط به.
كُلُّ الطرقِ تؤدي إلى الجنون، وإن اختلفت مسالكها، ونرى ذلك جليًا في حياتنا؛ فعندما يغامر شخص ما بما يملكه من مال، ويدخل به في تجارة غير مضمونة، فهذا يعد تهورًا وجنونًا. وأرى أن التهور يقع تحت مظلة الجنون.
غياب العقل والحكمة والاتزان أمرٌ محتمل في حياة النَّاس، ومن الطبيعي تحت ثأثير شيء ما يجعل رياح الجنون تحتل عقل الإنسان ولو لحظات، فتهب ريحها العاتية، فقد تكسر وتدمر حياته وحيوات آخرين.
نردد كثيرًا، عند أي فكرة أو عمل خارق لصاحبها، وننعته بـ«المجنون» جزاء هذا الشيء الخارق الذي قد أتى به! ونقرأ كثيرًا أن من شروط الإبداع أن يكون المبدع مجنونًا عندما يخلق نصه. ونرى هذا الأمر كثيرًا في الحالة الشعرية وتاريخ الشِّعر، الذي نجد فيه أن لكل شاعر جنية تسقيه الشعر، وكل ذلك مردّه إلى أن الشاعر أتى بشيء جديد ومختلف يحير العقول ويأسرها، فتصِف ما أتى به بأنه شيء من الجنون، حتى قيل «إن الجنون فنون»، أي ضروب وصور تتناقض سلباً وإيجاباً، ولذلك قالوا: «خذوا الحكمة من أفواه المجانين»، وتذكر كتب تاريخ الأدب أن بعض النقاد، كالمبرد، كانوا يذهبون إلى الأديرة والبيمارستانات، التي حُبِس فيها مجانين، ليستمعوا منهم إلى طرائف الأدب وجميل الشعر، ولا عجب في ذلك إذا عرفنا أن صاحب أجمل قصائد الحب العذري قيس بن الملوح لقِّب بالمجنون، أو مجنون ليلى، وأن «ماني المُوسْوِس» صاحب القصيدة المشهورة:
يا حادي العيس عرج كي أودعهم
يا حادي العيس في ترحالك الأجلُ
كان حبيس أحد هذه الأديرة.
نعوذ بالله من الجنون الذي «يهلك» صاحبه، سواء من حماقة أو تهور أو شجاعة في غير محلها… فالجنون يقود إلى الأذى والتهلكة، ما عدا جنون الإبداع، الذي يقود صاحبه إلى لحظة تجلّيات وخيال يسخره المبدعُ في صناعة نصٍّ آسر.