م. عبدالإله الطويان
(لسنا نتألم من الأشياء، وإنما من آرائنا عنها) أبيكتيتوس.
تمر بعض الكلمات بملمس هادئ، لكن أثرها لا يكون كذلك. كلمة واحدة قد تعيد إلينا مشاعر توقفت في منتصف الطريق، أو توقظ إحساسا ظنناه خمد؛ فالإنسان لا يستقبل الكلمات دائما كما هي، بل كما يعكسها داخله. هناك طبقات من الذاكرة والانفعال والتجربة تعمل بصمت، وتنهض حين يلامسها صوت بسيط لم نتوقعه.
ومع الوقت يكتشف الإنسان أن ما يحركه ليس الحدث، وإنما ما يوقظه الحدث في داخله. هذه الفكرة التي شغلت الرواقـيين تظهر بوضوح حين تستفز كلمة ما شخصا، بينما تمر على آخر من غير أن تترك أثرا. لكل إنسان سجل داخلي لا يشبه سجل غيره، ترتبط به الكلمات بطرق خفية لكنها فاعلة.
يكتب هيوم «أن العقل خادم للعواطف وينبغي أن يبقى كذلك» (بتصرف). جملة تكشف أن الشعور يصل غالبا قبل التفكير، وأن العقل لا يملك دائما حق المبادرة. لذلك قد يبدأ الإنسان في الرد قبل أن يعرف ما الذي رد عليه فعليا.
ومثل هذه اللحظة التي تمر على الكثير في الحوارات والنقاشات، يفقد الحوار إيقاعه الطبيعي. يبدأ الكلام في الانحراف عن مساره، ويأخذ كل طرف مسافة لا يعلنها، كأنه يعيد ترتيب دفاعاته الداخلية قبل أن يكمل الجملة التالية. في مثل هذه المساحات الدقيقة ينكشف الجانب الخفي من الحوار، الجانب الذي لا تصنعه الكلمات وحدها، بل ما تفتحه من أبواب داخلية.
في إحدى الرسائل التي كثيرا ما كنت أتوقف عليها، يكتب باسكال: «كل مشكلات الإنسان تأتي من عجزه عن الجلوس بهدوء في غرفة وحده»، ولعل هذه العبارة تستعيد معناها حين ننظر إلى الطريقة التي نتعامل بها مع الكلمات. فما يوقظ انزعاجنا لا يرتبط باللفظ ذاته، بل بما يحمله من صدى داخل الذاكرة. الكلمة مجرد إشارة، أما الحقيقة فتسكن في الداخل، حيث تتجمع بقايا المواقف التي لم نواجهها بوضوح!
ويظهر الهروب من هذا الكشف في صور متعددة: رد سريع، أو صوت يعلو، أو محاولة لافتراض نية لم تُقصد. ما يحدث في العمق أن الإنسان يحاول حماية نقطة حساسة لم يمنحها ما تحتاجه من فهم. فعندما يهرب من مواجهة ما شعر به، يفتش عن سبب خارجي، ويتحوّل مسار الحوار من معنى يُفهم إلى ذات يتم تجنبها.
ليس شرطا أن تكون كل كلمة توقظ شعورا غير مريح إساءة بالضرورة، فربما كانت فرصة للتأمل، أو وقفة لاستعادة شيء لم نقترب منه سابقا. كلمة واحدة قد تفتح بابا لم نكن نراه. وهذا ما عبّر عنه يونغ بقوله؛ «إلى أن تجعل اللاواعي واعيا سيحكم حياتك وستسميه القدر»، فالكلمة التي تؤثر اليوم كانت تنتظر لحظة تُرى فيها بوضوح، لأنها تمس مكانا لم يُعالج بعد ومع مرور الوقت تتضح حقيقة أن التعامل مع الكلمات جزء من التعامل مع النفس. أن نعرف لماذا نتأثر، وأي منطقة في داخلنا تتحرك، وكيف نميز بين صوتنا وصوت الآخر. عندما يتحقق ذلك يصبح الحوار أهدأ، وتخف وطأة الكلمات، ويأخذ الاستماع شكلا أكثر نضجا.
يشير آلان دو بوتون إلى أن الفلسفة تساعد الإنسان على أن «يعيش مع نفسه دون خوف». وهذا ينطبق على علاقتنا بالكلمات أيضا. أن نسمع اللفظ كما هو، لا كما يضخمه القلق. أن نعيد للكلمة حجمها الفعلي دون أن نحملها تاريخا لم تقله هي، بل قاله ما في داخلنا.
علينا أن نعيد حقا ترتيب الكلمات المربوطة بعواطفنا من خصما نواجهه، إلى علامة تقول إن في داخلنا ما يحتاج إلى أن نراه بوضوح. فالكلمة التي تثير سؤالا أهم من الكلمة التي تثير غضبا، والانتباه لما نشعر به أثمن من ألعاب السجال الكلامي..
عموما يظل التعامل مع اللغة جزءا من فن التعامل مع الذات، كلما ازداد وعي الإنسان بانفعالاته، خفت وطأة الكلمات، واتسعت قدرته على استقبال العالم كما هو، لا كما تقترحه مخاوفه. وما يقلل أثر الكلمة ليس تجنبها، وإنما فهم الطريق الذي سلكته حتى وصلت إلى الداخل.