عبدالله العولقي
قبْلَ عدّةِ أشهر، صدرَ كتابي (المُتنبّي، الحُلُم والقلق والترحال) عنْ دارِ الكتبِ العلميّةِ ببيروت لبنان، وقدْ تشكّلَ مضْمونهُ عنْ مجموعةٍ مقالاتي التي نشرْتُها في صحيفتنا الغرّاء (الجزيرة الثقافية) حول الشّاعرِ الكبيرِ، وعندها شعرتُ أنني ألقيتُ عنْ نفسي ثِقلَ المتنبّي وأوجاعَ دراسته، وطرحْتُ مشقةَ البحثِ عنْه، وماهيَ إلا شهور وأيّام حتّى عاودني الحنينُ للكتابةِ عنه، فأدبُه يسكنُ النفوس ويختالُ بين الجوانحِ، ومَا عسايَ أنْ أفعلَ بهذا الشغف الذي لا أجدُ له مُبرّراً عندي ولا عندَ غيري من المسكونين بإبْداعه سوى ما قاله ابنُ رشيق بأنّه مالئُ الدنيا وشاغلُ الناس، فيبدو أنّ غوايته لا تزال تطاردُ أيّ باحثٍ أو ناقدٍ تورّط في عشقِ أدبِه وشعره، فطالما كان أبو المُحسّد مُلْهِماً لرفاقِه الشعراء، فهذا محمود درويش يستهلُّ ديوانَه الشهير (هي أغنية) بشطرٍ من بيتِ المتنبّي: على قلقٍ كأنّ الريحِ تحتي، وغيره كثيرٌ من الذين أغواهم المتنبّي واستخدموه محوراً لقصائدهم، ومن تلك الغواية جاءت فكرةُ هذا المقالِ بعدَ أنْ وقفْتُ على باقةٍ منْ قصائد بديعةٍ لكبارِ الشعراءِ المعاصرين عنِ المتنبّي، وهي قصائد كثيرة ومتعدّدة ولكنّني اكتفيتُ بأربع قصائد لشعراء مُعاصرين هم محمد مهدي الجواهري وعبدالله البردوني والأخطل الصغير وجاسم الصحيّح، وما أجملَ أنْ يتحدّثَ الإبداعُ عنِ الإبداع، فهناكَ يجدُ المتذوّقُ للفنِّ مساحته المُضيئة في الدهشة والاستمتاعِ بالجمال، وهناكَ يتريّثُ الفِكْرُ قليلاً أو كثيراً في محاولةِ فهمِ تلك القراءاتِ الشعريّةِ التي تناولت أهمِّ شخصيّةٍ في تاريخِ أدبنا العربي، فعلى الرغمِ منْ تباينِ تجاربهم الشعريّة وتميّز كلّ تجربةٍ عن الأخرى في ظروفها وابداعيّتها إلّا إنك تجدُ ثمّة مشتركاتٍ وتقاطعاتٍ في تلك الرؤى الشعريّة جعلتنا نُفْردُ لها هذا المقال، فالحديثُ هنا عنْ إحساسِ الشاعرِ وليسَ الناقد تجاه ظاهرة المتنبي، فالأدواتُ التي يستعملها الشعراءُ هنا في تناول شخصيّة المتنبّي ونصوصه تختلفُ عنْ أدواتِ الناقدِ ومناهجه، فرؤية الشاعرِ تنبعُ عنْ إحساسِ الفنّانِ النابعِ منْ كوامنِ إبداعيّة فنيّة معيّنة، بحيث تتقاطعُ تلك المكامن الفنيّة والإبداعية وتتشابه مع المتنبي نفسه وقدْ تتباين معه!، وهنا يأتي التساؤلُ حول سببِ اصطفاف مثل هؤلاءِ الشعراء الكبار إلى جانب المتنبي، فهلْ تعاطفَ هؤلاء الشعراء إنسانّاً مع روحِ المتنبّي الطموحةِ الحالمةِ التي اصطدمت بخيبةِ الظروفِ غيرِ الملائمة؟، أمْ أنّ تعاطفهم يسمو إلى حالةٍ نخبويّةٍ أرقى، خصوصاً عندما يُوْأَدُ الإبداعُ على يدِ الغوغاء وقُطّاع الطريق، وأعني تلك النهاية الأليمة للمتنبي عندما عفّر الغوغائي فاتك بن أبي جهلٍ الأسدي لحية المبدع المتنبي في التراب إمعاناً في إذلاله بعد موته!، هذه النهاية التي لا تتلاءم مع قامة المتنبي الأدبيّة، وهلْ يُمكننا كذلك أنْ نفسّرُ هذا الاصطفاف بحالةٍ نفسيّةٍ عند هؤلاء الشعراء كردِّ اعتبارٍ تكريمي لأستاذهم القديم؟، الحقيقةُ أنّ ردّ الاعتبارِ الأدبيِّ للشاعرِ الكبيرِ لمْ يأتِ متأخراً زمنيّاً، بلْ جاءَ بعدَ رحيلِ المتنبّي مباشرةً عندما رثاهُ أكثر منْ خمسين شاعراً كما تقولُ الروايات، ولعلّ أهمَّ وأبرزَ هؤلاء الشعراء كان راويتُه وشارح ديوانه ابن جنّي، ذلك الناقد اللغوي المفتون بأدبِ المتنبي والغاوي لشعره، ولعلّ ابن جني نفسه عندما التقى أبا العلاء المعري وجد شخصاً يفوقه افتتانا وغلواً، فعندما انتقدَ ابنُ جنىٍّ المتنبيَّ في أحد أبياته في مجلس المعري، وقال: لو أنّ المتنبي قالَ كذا لكان أبلغ!!، عاتبه المعريُّ بعنفٍ قائلاً: لا تقلْ هذا، هو أعْلمُ بشعرِه، وإنْ قالها هكذا فهي أبلغُ وأجْود!!.
وهنا نعودُ إلى تقاطعات الإحساس والذهن عند هؤلاء الشعراء المعاصرين ومدى تجانس وتباين رؤيتهم تجاه شاعرهم المتنبي، فنبتدئ بتلك الدراسة المعروفة حول علاقة العبقريّة بالجنون، حيث إنّ هذه العلاقة مترابطة قدماً مع وجود الإنسان، ولعلّ كلمة عبقري بالإنجليزية GENIUS ترتبط في جذورها بكلمة الجن أو الجنون، فإذاً نحن أمام ثنائية متداولة: العبقرية/الجنون، أو العبقرية/الجنّ، ولو بحثنا أيضاً عن تفسير تشكّل الحالة الإبداعية عند الشاعر في تراثنا العربي لوجدناه يعود إلى الرواية الأسطورية المتوارثة والتي تتجهُ جغرافياً نحو وادي عبقر الذي يقعُ في الجزيرة العربية، وتسكنه كما تقولُ الأسطورة قبائلُ عديدة من الجنِّ، وخصوصاً شعراء الجنّ الذين كانوا يُلقّنون الشعراء من الإنس القصائد ويُلهمونهم الفصاحة، ومنْ هنا جاءتْ كلمةُ عبقري التي تعني الذكاء الخارق، وهي نسبةً لهذا الوادي كما تقول الأسطورة، فهناك تلتحمُ العبقريّةُ بالجنون لتشكّلَ ظاهرةَ الإبداعِ الشعري، وفي الروايات العربيّة القديمة نجدُ لكلِّ شاعرٍ قرينًا من الجنِّ يُلقّنُه الشعر كما تقولُ الأسطورة، ومنهم لافظ بن لاحظ لامرئ القيس، وهادر بن ماهر للنابغة الذبياني، وهكذا، وما زالت هذه الروايات تتداولُ بين النّاس حتى اليوم حين يصِفُون إلهامَ الشعر بالحليلة (أنثى الجن) أو الهاجس (ذكر الجن) كإشارةٍ إلى فئة الجنِّ التي تُمْلي القصيد على لسانِ الشاعر، فظاهرة تشكّل الحالة الإبداعيّة في تراثنا القديم وحتّى في الثقافات القديمة الأخرى نجدُ لها استناداً غيبيّاً إلى عالمِ المجهول، وتحديداً إلى عالم الجن، وإذا عُدْنا إلى محورِ موضوعنا حول رؤية الشاعر المعاصر إلى المتنبّي وتجربته الشعريّة نجدُ محاولات هؤلاء الشعراء المعاصرين تكادُ تقترب في محاولة إقحام هذه الثنائيّة العبقرية/الجن تجاه إبداعيّة المتنبي، فيقول الجواهري:
سرُّ الخلق ذهنٌ عبقريٌّ
أتى حجراً ففجّرهُ بياناً
ويقولُ في موضعٍ آخر:
أرابَ الجنَّ اِنسٌ عبقريٌّ
بوادي عبقرَ افترَشَ الجِنانا
ويقول البردُّوني:
عسكر الجنُّ والنبوءاتُ فيه
وإلى سيف قرمط كان يُنمى
ويقول الأخطل:
عُرْسٌ مِنَ الجِنِّ في الصَّحْراءِ قَدْ نَصبَوا
لَهُ السُّرادِقَ تَحْتَ الَّليْلِ وَالقُبَبا
ويقول الصحيّح:
إنّ الجنون وقد رآك أباً له
ما زال يمنحني هُويّة نجْلهِ
شبحٌ بشريان الخلود مسافرٌ
أبداً يُقصّرُ من مسافةِ جهْلهِ
إذنْ هناك تقاطعات متشابهة في رؤية هؤلاء الشعراء تجاه تفوّق إبداعيّة المتنبِّي الشعريّة، كما نجدهم أيضاً يتّفقون حول ربط حالة المتنبي الإبداعيّة بالنار، فيصفونه بالجمرة المشتعلة أو اللهب المتطاير من النار، ليقول الجواهري:
بأنك مُوقدُ الجمراتِ فينا
وإنْ كُسيتَ على رَغَمٍ دُخانا
ويقول البردُّوني:
كُلُّهم لا يرونه وهو لفْحٌ
تحت أجفانهم من الجمر أحمى
ويقول الأخطل الصغير:
كَأَنَّهُ تَدْمُرُ الزَّهْراءُ مارِجَةً
بِمِثْلِ لُسْنِ الأَفاعي تَقْذِفُ اللَّهَبا
ما ضَرَّ مُوقِدَهَا، وَالخُلْدُ مَنْزِلُهُ
إِذا رَمى نَفْسَهُ في نارِها حَطَبا
ويقول جاسم الصحيّح:
فإذا الفلاةُ قست عليك بجمْرها
آويتُ للمعنى تُنيخُ بظلهِ
فهؤلاء الشعراءُ الكبارُ –كما أسلفنا- يرون في أستاذِهم القديم أنموذجاً خارقاً للإبداع الفني والتميز الشعري، ولعلّ هذا يجعلهم يشبّهونه بالظواهر الطبيعيّة المُدمّرة كالصواعقِ والأعاصير والبراكين، فيقولُ الجواهري في وصفه للمتنبي:
وآب كما اشْتهى، يشتطُّ آنا
فيعصِفُ قاصِفاً ويرِقُّ آنا
ويقولَ الأخطلُ الصغير:
نادى أبوهُ عظيم الجنّ عترته
فأقبلوا ينظرون البدعة العجبا
ماذا نسميه؟، قال البعض: صاعقةٌ
فقال: كلا، فقالوا: عاصفاً، فأبى
غَضِبْتَ لِلْعَقْلِ أَنْ يَشْقى فَثُرْتَ لَهُ
بِمِثْلِ ما انْدفَعَ البُرْكانُ وَاصْطَخَبا
ويقول البردوني:
البراكينُ أُمّهُ، صار أُمّاً
للبراكينِ، للإراداتِ عزماً
ويقول الصحيّح:
في هيبة الإعصار سلّ على المدى
سيفَ الهبوبِ وشقّ معْدة رملهِ
وهناك ظاهرةٌ أخرى تتعلّق باستدعاء هؤلاء الشعراء لجغرافيا انتماء المتنبي، فالجواهريُّ مثلاً يردُّ هذا الانتماء المشترك بينهما إلى العراق:
فيا ابن الرافدين، ونِعْمَ فخراً
بأنّ فتى بني الدنيا فتانا
وكذلك الصحيّح يردُه إلى العراق:
من قلبِ محفظةِ النخيلِ تَوَهَّجَتْ
عيناهُ: عنوانُ (العراقِ) ونَخْلِهِ
وكسا مصائرَهُ السَّوادُ كأنَّما
تلك المصائرُ حفنةٌ من كُحْلِهِ
أمّا الأخطل الصغير فيردُّ المكان إلى حلب الشام، وهذا مناسبٌ لظروفِ القصيدة التي أنشدها في حفلِ المتنبّي بحلب:
لو ألّف المجد سفراً عن مفاخره
لراح يكتبُ في عنوانه حلبا
ملاعب الصيد من حمدان ما نسلوا
إلا الأهلّة والأشبال والقضبا
أمّا البردُّوني فيردُّه إلى جغرافيا العراق والشام معاً، إلى نخيل العراق وجبل قاسيون في الشام:
كان أعلى من قاسيون جبيناً
من نخيلِ العراق أجنى وأنمى
ومرّةً أُخْرى يكْتفي بحلب الشهباء، هناك حيث اكتمال النضج الفنّي ووصول الشاعر إلى قمّة مجده الأدبي في بلاط بني حمدان:
حلبٌ يا حنينُ، يا قلب تدعو
لا أُلبّي، يا موطن القلب مهما
لكن البردُّوني يُسْهِبُ القولَ في انتماءِ العِرْقِ، ويُؤَيّدُ وجهة نظر المتنبي نفسه حينما كان يُكثّفُ في شعره صور الانتسابَ إلى القوّة، وتحديداً إلى ثنائيّة السّيف والقلم، أيْ إلى نفسه التوّاقة للسّؤدد والمجد وما تحمله يداه من سلاحِ الرمح أو السيف:
جاءَ منْ نفسِه إليْها وحِيْدَاً
رامِياً أصْلَه غُبَاراً ورسْمَا
حامِلاً عُمْرَه بكفّيهِ رُمْحَاً
ناقِشاً نهْجَه على القلبِ وشْمَا
ارتضاها أُبوّةُ السّيْفِ طِفْلاً
أرْضَعَتْهُ حقيقةُ الموتِ حُلْما
لقد حيّرت شخصيّة المتنبّي الباحثين عنْ فهم أسرارها ولغز تحركاتها وقلقها الدائم، وسفرها ورحيلها المستمر عبر الأرض العربية، ليقولَ هو عن نفسه:
يقولون لي ما أنتَ في كلّ بلدةٍ
وما تبْتغي؟ ما أبتغيهِ جَلّ أن يُسْمى!
ليجاريه البردُّوني في هذه المحاكاة الفنيّة ويقول:
سَاءَلْتُ كلَّ بلْدَةٍ: أنتَ مَاذا؟
مَا الذي تبْتَغِي؟، أجَلّ وأسْمَى
أمّا الجواهري فيتساءل معهم أيضاً:
فماذا تبتغي؟ أعلوّ شأنٌ
فمنْ ذا كانَ أرفعُ منك شانا؟
ونختمُ حديثُنا عن الشاعرِ الكبيرِ حولَ معنى الموت، ذلكَ القدرُ الذي أوهمَ أعداءَ المتنبي وحسادَه أنه سيُفْني ذكره إلى الأبد، فتبدّدتْ أمانيُّهم هباءً، وإذا بموتِ المتنبِّي ورحيلِه عن الدنيا يُمثّلُ حياةً أخرى لذكرِهِ الذي امتدَّ صداهُ حتّى اليوم، يقولُ البردُّوني:
جرّبَ المَوتُ محْوهُ ذاتَ يومٍ
وإلى اليومِ، يقْتُلُ المَوتَ فهْمَا
ويقولُ الجواهري:
تحدّى الموتَ واختزل الزمانا
فتىً لوّى منَ الزمنِ العَنانا
فتَىً خَبَطَ الدُّنَى والنّاسَ طُرّاً
وآلى إلّا أنْ يكونَهُما فكانا
ويقولُ الصحيّح:
قتلوكَ كي تلِدَ الحكايةُ نفسَها
وصَدَى الهَديرِ يُعيدُ قِصّةَ فحْلِه