حامد أحمد الشريف
علينا بداية أن نعي تمامًا أن القراءات القديمة لا تكفي كي نتكئ عليها، ونعتقد أننا ننهل منها في كتابتنا من الناحية الفنية والبنائية، إذا ما اتجهنا للكتابة السردية وأردنا تطوير أدواتنا في وقت لاحق، فهي غالبًا لا تُظهر ذلك التأثير الكبير على أقلامنا في هذا الجانب، ذلك أن تلكم القراءات القديمة مشغولة بالحكايات ومهتمة بتشويقها وتفاصيلها المتعددة، ويقتصر تأثيرها غالبًا على اللغة، أي أنها لا تهتم بالجوانب الفنية التي احتكمَ إليها مؤلف العمل وكان لها مفعول السحر في منح سرديته تلك القيمة والجمال والديمومة، ما يعني أن علينا إعادة قراءة كل الأعمال الخالدة، وتكرار ذلك بين الفينة والأخرى للاستفادة من أدواتنا الفنية الحالية المتعلقة بالفهم والتحليل والاستنتاج والربط، والنضوج القرائي بكافة أشكاله وألوانه، والإلمام بقوانين السرد وتفصيلاته، التي تؤهلنا للوقوف على إبداعات الآخرين وفك شفراتها، حتى يظهر أثرها بالفعل على أقلامنا، ولعل ذلك ما دفعني لمعاودة قراءة ما يقع تحت يدي من الأعمال الخالدة، لكتاب السرد الكبار كـ«سارماغو» و«كونديرا» و«البير كامو» وبقية الأسماء العظيمة التي سنمر عليها تباعًا.
وها نحن الآن مع وقفة أخرى لا تقل أهمية عن كل الوقفات السابقة ترافقنا فيها إحدى الروايات الخالدة وأعني بذلك رواية «زُورَبا اليوناني» للكاتب العالمي «نيكوس كازانتزاكي» وهي إحدى المحطات المهمة التي ينبغي المرور عليها من كل قلم يريد إتقان صناعة الكتابة السردية أو النقدية، فبعدها التعلُّمي واضح جدًا وقيم، ويعد احتياجًا حقيقيًا لكل مبدع يسعى للتطور والصقل ومضاهاة هؤلاء بل ربما التفوق عليهم.
وما يستحسن قوله هنا، إنَّ هذه الرواية ينبغي قراءتها ضمن هذا السياق التعلُّمي خلاف متعة القراءة نفسها المتحققة بالفعل في كل الأحوال، وهي تحمل ذات الأهمية إن لم يكن أكثر في البعد النقدي لما تمتلكه من تقنيات سردية مبتكرة ومقنعة أطلت على السرد العالمي من خلال هذا العمل، والأكيد أنني لن أكون مبالغًا إن ذكرت بأن غلاة كل المدارس النقدية، البنائية، والأسلوبية، والسيميائية، والثيمية، والفلسفية، والنفسية، والتفكيكية، ورواد النقد الثقافي والاجتماعي، خلاف أصحاب نظرية التلقي ذائعة الصيت، كل هؤلاء المتحزبين خلف مدارسهم ونظرياتهم الأثيرة ومناهجهم النقدية المحببة، ممن لا يرون النصوص الأدبية إلا من خلالها، سيجدون ضالتهم في هذه الرواية التي تحتار من أي طرف تمسك بها، وهو ما دعاني لتخصيص هذا الجزء لتناول بنيوية العمل وأسلوبيته وبعض النواحي الفنية الأخرى، ومنح الإنسان بكل متعلقاته الفلسفية والنفسية وامتداداته داخل العمل وخارجه وارتباطه بهيكلية هذه السردية المتعددة، منحه كامل مساحة الجزء الثاني من هذه المراجعة النقدية المتواضعة لهذه الرواية العظيمة التي وقع تحت يدي منها نسخة ترجمها أسامة أسبر وأصدرتها دار مسكيلياني في 396 صفحة من القطع المتوسط.
إن أول ما يستوقفنا في هذا العمل الجميل من الناحية البنائية هو تعدد الرواة بشكل إبداعي، فالرواية تظهرُ بداية مسرودة بضمير المتكلم المسنود للرئيس، لكنه لا يستأثر بالحكي وحده، بل يترك الجميع يتحدثون ويحكون قصصهم بأدق تفصيلاتها، ومن هؤلاء مطلقو الأيدي؛ الراوي العليم الذي ظهر من البداية، وتخلل حديث المتكلم الأساس، الموصوف من بعض النقاد بالمثقف، وأطلقت عليه السردية الرئيس، وهو الوصف الذي أتى على لسان «زوربا» بعد قرار الرئيس بقبوله مستخدمًا لديه، أوكل إليه رئاسة العمال في منجم الفحم المزمع إنشاؤه.
وبالعودة للراوي العليم نجد أنه ظل مرافقًا لنا حتى النهاية، إذ نجده يستلم زمام الحكي في كثير من المواضع كقوله ص20: (قال رجل له شارب كان قد استمدّ فلسفته من مسرح الظلّ: «إن الحياة في هذه الدنيا مثل حكم مؤبّد بالسجن. نعم، إنّها حكم بالسجن المؤبّد. اللعنة على هكذا حياة!»)، انتهى كلامه. وكما يلاحظ هنا فإن حديث الراوي العليم لم يخلُ من ضمير المتكلم الذي منح لهذا الرجل المجهول مؤقتًا، وهو ما تكرر كثيرًا داخل العمل إذ إن أغلب الشخصيات تتداخل في السرد بضمير المتكلم وتُمنح المساحة التي تحتاجها كاملة بعد أن يقوم الراوي العليم أو الرئيس بتقديمها وتبرير حضورها، من هؤلاء بالتأكيد «زوربا» الذي لم يمنح ضمير المتكلم المطلق رغم أن العمل كله يدور حوله، وإن أتيح له التحدث عن نفسه كما يشاء، واستعارة ضمير المتكلم كثيرًا من الرئيس في الوقت الذي يريده، إلا أنه مع ذلك لم يكن صاحب الحكاية الأم، أو الراوي الأساس لها، في وقت استأثر بهذا الضمير الرئيس، واستخدمه في أسناد الحكاية إلى نفسه وتدشينها وإنهائها والوقوف على كل مفاصلها المهمة، وهو الشخص الذي لم تعلن شخصيته طوال العمل فلم يعرف اسمه مطلقًا، وظل يُنادى بهذه الصفة العملية، ولا أظن هذا الأمر أتى اعتباطًا أو بالصدفة إذ إن كل من مر بالصراعات وتداخل في السرد، ذكر اسمه ووصفه عدا الراوي المتكلم (الرئيس) الذي بقي مغيب الاسم حتى نهاية العمل.
وما أظنه من خلال تتبع ملامح هذه الشخصية الاعتبارية مجهولة الهوية أن الهدف تهميش حضورها المادي (الجسدي) وتكريس أهميتها على مستوى البعد السلوكي والنفسي والعاطفي، وتسليط الضوء على قيمتها الفكرية والفلسفية المناقضة بالكلية لشخصية «زوربا»، وتوظيفها لإظهار شخصية البطل الحقيقي للعمل وأعني بذلك «زوربا» نفسه، أي استخدام ثنائية التناقض في تسليط الضوء على المعاني والفلسفات العميقة المستهدفة، ما يعنى أن هذه الشخصية المصنوعة بعناية فائقة من قبل المؤلف، كان الهدف منها تشكيلها هذه الثنائية الضدية وامتطاء صهوتها طوال العمل بغية تكثيف المواقف وإعانة القارئ على فهمها واستيعابها وإيصال مراميها الخفية، فشخصية «زوربا» - الثقيلة جدًا فنيًا - لربما لم يكن لها ذلك التأثير الكبير في القارئ لولا شخصية الرئيس التي كانت على النقيض تمامًا منها، وأظهرت ردات فعلنا المتوقعة تِجاه سلوكياته، وقد نجح المؤلف بالفعل في هذه التقنية الرائعة التي أظنها جاءت بإرادة حقيقية منه وعن سابق إصرار، إذ كان لها مفعول السحر طوال العمل وشكلت أحد أهم عناصر قوته البنائية، فكان القارئ دائمًا يرى شخصية «زوربا» من منظور الرئيس الرزين والهادي والعقلاني والمنضبط سلوكيًا وعاطفيًا وقليل الكلام، ويوافقه عليها تمامًا، ويرى أيضًا شخصية الرئيس من منظور زوربا الطائش المتهور المندفع والمستهتر بكل الأعراف والقيم والمبادئ وصاحب التجارب الحياتية الملهمة، والحكاء الكبير الذي أدهش الرئيس واستولى على شغاف قلبه، ويمكن رؤية ذلك في حوار جميل دار بين «زوربا» والرئيس ص72 أوردُ مقتطفًا منه، يقول: («ولكن ما الذي تعنيه يا زوربا؟ أتظن أنّ النساء كلهنّ لا يشغل ذهنهنّ إلا هذا؟».
«نعم أيها الرئيس، لا يشغل أذهانهن شيء آخر. أصغ إليّ، الآن... فقد عاشرت الأنواع كلّها، وجرّبت الأشياء جميعها... ليس للمرأة شيءٌ آخر في رأسها. إنها كائن مريض، وكثير التشكي، كما أقول لك. إذا لم تقل لها إنك تريدها وتحبّها، تبدأ بالبكاء».). إلى أن ينتهي الحوار بقول الرئيس بينه وبين نفسه ص74: (تأمّلتُ كلمات زوربا، وفجأة تذكّرتُ بلدة بعيدة مقطوعة من كثرة الثلوج. كنتُ أحضر معرضًا لأعمال رودان، وتوقفتُ كي أنظر إلى يد برونزية ضخمة، «يد الله». كانت تلك اليد نصف مغلقة، وفي راحة اليد كان رجل وامرأة منتشيين يتعانقان ويتصارعان. ....الخ) انتهى كلامه. وكما يظهر هنا كان الفرق شاسعًا بين الاثنين في تناول الموضوع نفسه، إذ يتجلى انفلات زوربا ومجونه، مقارنة بعقلانية الرئيس وهدوئه، وكذلك الفرق بين الخبرات الحياتية المباشرة لدى «زوربا» مقارنة بالخبرات القرائية غير المباشرة لدى الرئيس. وفي الأمر متسع أكبر لا يكفي هذا المقال لذكره، إذ إن هذا الجانب وحدَه يعد مبحثًا مهمًّا لدراسة العمل، لا يسمح لك بالنظر إلى غيره.
وإذا ما عدنا للرواة، فإننا نجد الراوي العليم المطلق من خارج الحكاية ظهر في كثير من المفاصل المهمة، وكذلك ظهر الراوي العليم المشارك من داخل الصراع، ونهض بهذا الدور -كما أسلفنا- الرئيس إذ كان مشغولًا بوصف ما يحدث أمامه أكثر من انشغاله بالحديث عن نفسه، والجميل أن هذا التنوع غير ظاهر وغير مربك وقد لا ينتبه له القارئ العادي، فتنقل الحكي بين كل هؤلاء تم بسلاسة عجيبة وبتوظيف غاية في الجمال والدقة والواقعية، وفي ظني أن هذا العمل يصلح أن يكون ورشة تدريب يتعرف من خلالها كتاب السرد على الطريقة المثلى للتعامل مع رواة الحكايات داخل السرد، وكما هو معلوم فإن الرواة من الأهمية بمكان بحيث لا ينبغي إهمالهم أو إغفال دورهم المحوري، بل إن على السارد أن يشتغل على هذا الجانب كثيرًا فهو أحد أهم عوامل إنجاح الأعمال السردية قديمًا وحديثًا وهو ضمن أهم ركائز علم السرد (Narratology) المشغول ببنيوية النص الأدبية.
وإذا ما تركنا الرواة فإن أكثر ما يستوقفنا في هذا العمل الجميل هو مشهديته الإبداعية التي نجح المؤلف في كتابتها على نحو تجعل القارئ يشاهد الحدث بالفعل ولا يقرأه، فالوصف كان ممتعًا ورائعًا، نقل الوقائع بأدق تفاصيلها، وحملها أيضًا بالمشاعر والأحاسيس، وغلفها بالأفكار والفلسفات بحيث أصبح من الظلم تجاوزها مهما كانت القراءة مخصصة، إذا أنها يقينًا أسهمت في كل عوامل إنجاح العمل فالإنسان ظهر من خلالها، والعمق الإثرائي هي من أمسكت بزمامه، والمكان والزمان والصراعات كل أولئك كانت عنه مسؤولة، وكذلك الفلسفات إنما انبعثت من مشاهد معينة استدعت الأفكار ودعمتها وسهلت تلقيها، أي أن المشهدية في ظني هي البطل الحقيقي لهذا العمل والأداة التي أنابها المؤلف عنه لإيصال كل الرسائل التي يريدها، وهو ما دفعني للتوقف قليلًا والحديث عن هذه التقنية السردية بكل تفاصيلها التي تعد ركيزةً أساسية، وعاملًا مهمًا من عوامل إبداع العمل، أوْلاها السارد كل اهتمامه، وهي بدورها اهتمت بكل تفاصيل المشاهد المتنوعة، ولم تكتفِ برصد أحاديث وسلوك البطل أو معاونيه كما جرت العادة السردية، بل ذهبت أبعد من ذلك بكثير إذ قد تجد وصفًا دقيقًا لأناس لا يظهرون إلا في مشهد واحد فقط ويكون حضورهم هامشيًا، ومع ذلك نجد السارد يمنحهم حقهم كاملًا، وهذا إبداع تميزت به السينما العالمية كهوليود التي تهتم بكل تفصيلات المشاهد، ولا تترك شيئًا منها حتى إن الكومبارس لهم أدوار حركية مقننة يحفظونها ويؤدونها أمام الكاميرات، ويمكننا رصد ذلك في قوله ص19: (فُتحَ البابُ الزجاجي ودخل مراكبيّ أسمر، بدين، قصير القامة، عاري الرأس، رجلاه حافيتان، والطين يلطّخه من شعره إلى أخمص قدميه.
صاح بحّار عجوز يرتدي عباءة سماوية اللون: «مرحبًا كوستاندي! كيف حالك؟») انتهى كلامه. وهكذا سنجد لاحقًا أن هؤلاء الموصوفين هنا لن يظهروا في غير هذا المشهد البسيط ويغيب ذكرهم تمامًا في بقية الرواية.
مثل هذه المشاهد تكررت أيضًا في كامل العمل كالمشهد الموصوف في ص136 يقول: (تبعت أعين الجميع إشارته. وفي تلك اللحظة مرّت امرأة راكضة وقد أسبلت شعرها على كتفيها ورفعت تنّورتها السوداء إلى الركبتين. كانت مكتنزة، متمايلة وثيابها ملتصقة بجلدها كاشفة عن جسد صلب مثير. جفلتُ. وقلت في نفسي أي صيد هو هذا؟. بدت لي رشيقة. وخطيرة تلتهم الرجال.... الخ) انتهى كلامه. هذا النسق المشهدي المتداول بكثرة في ثنايا العمل يبين قدرة المؤلف على توظيف المشاهد وإقحام القارئ داخلها والتركيز على كل التفاصيل الكبيرة والدقيقة، فهؤلاء القرويون كانوا يجلسون في المقهى ويدور الحديث بينهم في مواضيع شتى لا علاقة لها بالنساء قبل اقتحام الأرملة للمشهد وتحولهم باتجاهها، ويمكن الرجوع لكامل تفاصيل هذا المشهد الرائع للوقوف على صناعة المؤلف للمشاهد بدقة جنونية وبتفاصيل دقيقة تجعل منها قيمة حقيقية باقية لا يمكن نسيانها، وقد تكرر ذلك كثيرًا في سياق السرد لكنني سأكتفي بهذين المشهدين ويمكن تتبع ذلك داخل العمل لمن أراد الاستزادة من هذا الإبداع السردي المختلف.
ومن الأمور المهمة جدًا التي تميز بها هذا العمل؛ العمق الفكري والفلسفي والثقافي، ومع أن ذلك كان رائعًا وأضفى قيمة إضافية إلى العمل، إلا أن الأجمل هو القدرة على غرسه داخل السرد بطريقة تجعلك تقبله ولا تنظر إليه على أنه مثاقفة أو حضور للمؤلف داخل العمل أو أنه عبءٌ على النص أودى به إلى الترهل، وهي التجاوزات المرفوضة. فُعلَ كل ذلك رغم أن الرئيس -كما ذكرنا - سابقًا مجهول الهوية ما جعل كثيرًا من النقاد ينظرون إليه على أنه يمثل المؤلف «كازانتزاكي» ويعبر عن وجهة نظره، بينما لا أراه على هذا النحو مطلقًا، فشخصية الرئيس، شخصية حقيقية داخل السرد وتتفاعل مع كل الأحداث، وهي عنصر مهم يقتحم جميع الصراعات ويخوض غمارها، أي أنه مكون بنيوي مهم يقوم عليه العمل السردي، وطالما كان بهذه المواصفات فلا يعنيني إن كان نائبًا عن المؤلف أو هو المؤلف ذاته، إذ طالما استطاع المؤلف كسر حواجز القوانين السردية بحرفية وإتقان فله الحق كله ولا يمكننا الإنكار عليه، وما كان الإبداع إلا لأجل ذلك.
على أية حال، شخصية الرئيس لا تعبر عن أي شخص خارج العمل حتى وإن كان المؤلف، فهي صورة نمطية لكل الأشخاص الذين يتصفون بهذه الصفات وهم كثر في محيطنا الإنساني، والشاهد هنا أن المبدع يستطيع فعل ما يشاء طالما كان قادرًا على تمرير تجاوزاته وهو ما نجح فيه بالفعل من خلال هذا العمل الإبداعي، وقد يكون مبعث ذلك أن الفلسفات والأفكار العميقة لم تكن قاصرة على شخصية بذاتها بل كانت متداولة بين الجميع، كل يعبر عن وجهة نظره بنفسه وبالأسلوب الذي يختاره، ويحاول إقناع الجميع بمعتقداته الشخصية، كما ظهر في بداية العمل عند إيراده عبارة غاية في الجمال والعمق. يقول ص24: (إن الروح البشرية ثقيلة ومشوّشة حبيسة في طين الجسد. لا يزال إدراكها متبلّدًا وغير مصقول. لا تستطيع أن تؤلّه أيّ شيء بوضوح، أو بيقين. آه لو كان بوسعها التخمين كم سيكون هذا الفراق مختلفًا). انتهى كلامه.
ونجد ذلك في حوار الرئيس مع نفسه وتذكره لما كان يخبره به صديقه متهكمًا عليه، في سياق غاية في الجمال، يظهر انفصال المثقفين عن الواقع وعدم قدرتهم على التفكير خارج كتبهم حسبما ترى السردية، نجد ذلك في قوله ص25: (تمنّيت لو كان بإمكاني أن أعيش مرة أخرى لحظةَ ذلك الغضب الذي تصاعد في داخلي حين نعتني صديقي بـ «الفأر قارض الكتب!»…. الخ) انتهى كلامه. ونجد ذلك على سبيل المثال في قول زوربا ص 29: (لا تتوقّع أن تتعلّم التهجئة من قفاها، أليس كذلك؟ إن قفا زوجة الطحان هو العقل البشري»…. الخ) انتهى كلامه. وذلك يقودنا للقو لأن المؤلف نجح بامتياز في تمرير اللاقط الصوتي على كل الحضور ومنحهم المساحة كاملة للتعبير عن وجهة نظرهم كاملة واستعراض فلسفاتهم التي يؤمنون بها ولم يكن ذلك حكرًا على الرئيس حتى نتهمه بالإنابة عن المؤلف داخل العمل.
ومن الأساليب السردية الرائعة والمبتكرة التي تميزت بها هذه الرواية عن غيرها تضمين السرد لعدد من الرسائل، ثم إقحامها في الصراعات وتدوينها كاملة كما هو الحال مع الرسالة التي وصلته من صديقه المنفي إلى القوقاز وأوردها المؤلف في ص128، وكانت رسالة طويلة امتدت على مساحة أربع صفحات، وأجمل ما فيها نهايتها عندما قال لصديقه ص132: (وأيضًا كي أحظى بفرصة التعبير عمّا لا أستطيع أن أكشفه لك أبدًا حين نكون سوية بسبب عادتنا الجيدة أو السيئة في كبح مشاعرنا.). انتهى كلامه. وبالفعل تحمل الرسائل هذه القيمة الفعلية بين الأصدقاء والعاشقين أو حتى الكارهين فهي النافذة التي نطل من خلالها على مشاعرنا الحقيقية التي غالبًا ما نعجز عن إبدائها في اللقاءات المباشرة المحفوفة بالمخاطر، وهذا يقودنا للعودة للحديث عن التفعيل الإبداعي لتقنيات السرد والقدرة على التلاعب باشتراطاتها، فالرسائل قد تكون من الحشو الذي لا طائل من ورائه، أو خارجة عن السياق، أو حالها حال المقالية والوعظية المرفوضة كليًا داخل السرد، ويستثنى من ذلك أن تكون على هذا النحو الرائع، إذ إنها أتت في موضعها وحملت بعدًا سرديًا جميلًا لبس عباءة مختلفة زادته بريقًا وجمالًا، ولعل هذا ما ميز رواية «زوربا»، فهناك فسيفساء للحكايات المثيرة والمشوقة تأتي على أحوال شتى يرويها الراوي العليم أو الرئيس المتكلم، ويستأثر بأكبر جزء منها «زوربا» مع أنه ظاهريًا يعد سنيد البطل. وتأتي في سياقات مبررة ومرتبطة بالزمان والمكان، وبالواقعية الحدثية إن جاز تسميتها، وأعني بذلك الأحداث الواقعية التي تأتي في سياقاتها المبررة وتحمل صدقًا سرديًا مقنعًا يرتقي بالتلقي إلى أعلى درجة ممكنة، وكل ذلك يفسر افتتان المتلقي بشكل يفوق الوصف بهذه الحكايات، والحميمية التي تغلف علاقته بزوربا طوال العمل وتدخلهما طور الصداقة، أي أنَّ المؤلف نجح في جعل المتلقي يتجاوز بكثير دوره كقارئ ويعمل بجد واجتهاد لرتق ثقوب النص المتعمدة بهدف إذكائه.
وهذه الرسالة لم تكن الوحيدة بل تكرر استخدام أدب الرسائل في أربعة مواضع، وكلها كانت رسائل كاملة جيء بها في سياقات سردية جميلة ومبررة، منها رسالة وصلت إلى الرئيس من أحد طلابه المقيم في إفريقيا ويدعى كاريانيس نجدها في ص186. لكن، في ظني أهم هذه الرسائل الأربع، رسالة «زوربا» ص193 إلى الرئيس، وهذه أيضًا لم تكن رسالة قصيرة بل كانت الأطول من بين كل الرسائل امتدت إلى عشر صفحات تقريبًا حكى فيها «زوربا» تفاصيل رحلته إلى مدينة كانديا، ووصفها الرئيس بقوله ص 193: (وفي اليوم السادس تلقّيتُ رسالة من كانديا مؤلّفة من عدّة صفحات طويلة، من الهراء، كانت مكتوبة على ورق وردي معطّر، وفي زاوية الصفحة قلب يخترقه سهم). انتهى كلامه. وكما يظهر هنا أن الرسالة أدرجت ضمن السرد، وغلفت بغلاف مثير ومشوق يدفعك لقراءتها من بدايتها حتى نهايتها، خلاف أنها كانت جزءًا من تحايل المؤلف على السرد كي يستطيع نقل ما حدث مع زوربا في مدينة كاندي، وهو ما لا يمكن للراوي المتكلم روايته ووصفه، وأيضًا لم يكن باستطاعة الراوي العليم فعل ذلك إذ إن المشاهد الموصوفة احتاجت ردات فعل الراوي المتكلم الذي لا يمكن تغييبه عن هكذا مشهد فقيمة «زوربا» ارتبطت بنقيضه الرئيس، أي أن قيمة الحكاية هذه مقرونة بتلقيها من الرئيس وتفاعلها اللحظي معها، ولم يكن غير الرسائل وسيلة لتصوير هذه المشاهد المهمة والمفصلية في حكاية «زوربا» حيث إنه ذهب للمدينة لتأمين احتياجات الرافعة التي عزم على تشييدها في الجبال من حبال وبكرات وخلافه، وأخذ مبلغًا كبيرًا من المال لتأمين كل ذلك، فإذا به يقع في غرام غانية صغيرة السن ويصرف كل النقود عليها، ويرسل رسالته هذه لوصف ما حدث بكل تفاصيله بُغية استرقاق قلب الرئيس وملاطفته وتبرير تجاوزاته بمبررات سخيفة ومضحكة، ويحملها وعده له بحل هذه الإشكالية بطريقته، فكانت الرسالة ظريفة جدًا ومثيرة ومشوقة وقد وصفها الرئيس بعبارات غاية في الجمال بعد الانتهاء منها يقول ص203: (حين انتهيتُ من قراءة رسالة زوربا كنتُ في حيرة من أمري، لم أعرف إن كنت سأغضب أو أضحك أو أعجب بهذا الرجل البدائي الذي كسر صَدَفة الحياة - المنطق، والأخلاق، والصدق - ودخل مباشرة إلى جوهرها). انتهى كلامه.
وكما تلاحظون أن الرسالة قيمة جدًا ومشوقة، وأنا على يقين من أن القارئ سيعيد قراءتها أكثر من مرة وهو لا يزال مستغرقًا في الضحك ومشدوهًا من هذه الشخصية المركبة العجيبة، المقربة كثيرًا للنفس رغم شطحاتها الجنونية وانفلاتها من كل القيم الأخلاقية والدينية والاجتماعية، ويقينًا لا يمكنني نقل هذه الرسالة هنا، وإن كنت سأكتفي بتدوين نهايتها الرائعة التي يقول فيها ص203: (أنا أكتبُ هذا أيها الرئيس في غرفة لولا، وعلى ورقها؛ وإكرامًا لله، أصغ بعناية. أعتقد أن الأشخاص الذين يريدون أن يكونوا أحرارًا فحسب هم البشر. أما النساء فلا يردن الحرية. حسنًا هل المرأة كائن بشري؟ أغثني واكتب لي فورًا. إنني أقبّلك من كلّ قلبي، يا رئيسي الطيّب.
أنا، أليكسيس زوربا).
ومن الأشياء الرائعة التي اشتملت عليها هذه السردية الإبداعية -إذا ما نظرنا إليها من الزاوية الأسلوبية - هي اللغة الشاعرية الرقيقة جدًا التي في ظني تستوقف القارئ وتشغله بها مهما كانت اهتماماته ويكمن ذلك في توظيفها بشكل رائع وجميل في الهيكلية البنائية للرواية خلاف رقتها وعذوبتها وجمالها، إذ لا يمكن الاستغناء عنها ولم تكن عبئًا على النص أو أنها محسنات إبداعية بل هي من صميم السياق السردي ولكنها كتبت بشكل مختلف، وعد ذلك مزية كبيرة جعلت كثيرين يتغنون بها من هذا الجانب ولا ينظرون لغيره، ويقينًا فإن الشواهد على ذلك أكثر بكثير من حصرها لكنني سأكتفي ببعض العبارات الرائعة الجزلة التي أتت في سياقات هيكلية توصل الفكرة التي أشرت إليها، من ذلك قوله ص35: (البحرُ رقّةُ الخريف، جزرٌ تغتسل بالضوء، مطرٌ رائع ينشر حجابًا من الشفافية فوق عُرى اليونان الخالد). انتهى كلامه. ووصفه الرائع ليوم ماطر في كريت ذكر على لسان الرئيس انتهى بعبارات مكتنزة بالجمال والحكمة وعلى مساس بالحكاية الأم نرصده في ص 127 يقول: (كانت السحبُ تزدادُ انخفاضًا. نظرتُ عبر النافذة؛ فإذا قلبي ينبض برقّة. أية رغبة شهوانية في الحزن تستطيع أن تولّدها فيكَ تلك الساعات من المطر الخفيف. الذكريات المرّة كلّها تصعد إلى السطح: فراق الأصدقاء، ابتسامات النساء التي انطفأت، الآمال التي فقدت أجنحتها كفراشة لم تبق منها سوى الدودة زحفت على ورقة قلبي وراحت تقضمها). انتهى كلامه. ومن ذلك أيضًا قوله ص285: (كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل حين عدنا إلى الشاطئ، وكانت الرياح تهبّ. من هنالك، من إفريقيا، جاءت النوتس، الريح الجنوبية الدافئة التي تنفخ الأشجار والكرمة وأثداء كريت، انتعشت الجزيرة كلّها، وهي تستلقي قرب الماء، تحت النفَسِ الدافئ لهذه الريح التي تجعل النسغ يبدأ بالصعود) انتهى كلامه. وقوله أيضًا ص343: (سرنا صامتين في شوارع القرية الضيّقة. كانت المصابيح مطفأة فبدت المنازل مثل بقع سوداء تلطخ ثوب اللّيل) انتهى كلامه.
وهكذا نجد أننا نتنقل في واحة من الجمال والتقنيات السردية الإبداعية. خلال تنقلنا بين ضفتي هذا الكتاب العجيب ونحن لا نعرف إن كنا نحب زوربا أو نكرهه وكذلك إن كنا نتفق معه أو نختلف إذ إنه كان قادرًا على الإقناع بشكل عجيب، رغم فوضويته وعفويته وجهله بالمقاييس الثقافية والعلمية، لكنه على الجانب الآخر مثل القيمة الحقيقية للإنسان، وأقنعنا بأن الفلسفة ليست ترفًا وتجاوزًا وإنما واقعًا نعيشه في كل دقائق حياتنا، وللحديث بقية نستكمله بإذن الله الأسبوع المقبل.