في عالمٍ يتسارع فيه كل شيء، يغدو الفن واحدًا من القلائل القادرة على إعادة الإنسان إلى مركزه الأول.. إلى ذاته. فالأحداث الفنية الكبرى لم تعد اليوم مجرد مناسبات تُقام لعرض أعمال أو تقديم تجارب بصرية، بل أصبحت فضاءات إنسانية تتلاقى فيها الحواس، وتذوب الفوارق، ويتحرّر الجمهور من فكرة أن الفن حكرٌ على نخبة محددة. في هذه الفضاءات تتكسر الحواجز بين الفنان والمجتمع، ويتحوّل العمل الفني من مادة عرض إلى حالة من المشاركة، ومن التأمل المنعزل إلى حوار مفتوح يعبر كل الأعمار وكل الخلفيات وكل مستويات المعرفة.
وسط هذه الرؤية الإنسانية الرحبة، يبرز أسبوع مسك للفنون كل عام كحدثٍ يوسّع دائرة الضوء، ويرتقي بالذائقة البصرية، ويمنح المجتمع نافذة واسعة يطل منها على تجليات الفن المعاصر بأشكاله المتعددة. فهو ليس تظاهرة فنية وحسب، بل منصة تُعيد تعريف دور الفن في الحياة اليومية، وتنسج علاقة جديدة بين الإبداع والمجتمع، بين الفنان والمتلقي، بين الخيال والواقع، لتصبح الرياض خلال أيامه الستة مدينةً تتنفس الفن وتحتفي به في كل زاوية من زواياها.
«ظرف مكان».. حين يصبح المكان لغة داخلية
في قلب الأسبوع، ينهض معرض «ظرف مكان» كقراءة فنية شاعرية تربط الإنسان بعناصر الطبيعة الثلاث: الأرض، البحر، والسماء.
يتوزع المعرض على ثلاثة محاور زمنية ووجودية: العتمة – النهار - السَحَر. هذه المحاور ليست تقسيمات بصرية فقط، بل مساحات شعورية تجعل المتلقي يعبر خلال زيارته بين حالات من التأمل العميق والدهشة والانكشاف.
يشارك في المعرض أكثر من 20 فنانًا من دول الخليج، منهم عبدالكريم قاسم، آمنة الباكر، عبدالله العثمان، زهرة الغامدي، روان السالم، خالد بن عفيف، وآخرون، وكل عمل في هذا المعرض يشكّل مرآة لأسئلة تتعلق بالبيئة، بالذاكرة، بالتحوّلات، وبالتجارب الإنسانية التي تنبعث بعد الأزمات.
يدعو المعرض زواره إلى إبطاء خطواتهم، إلى الإصغاء لما حولهم، وإلى العودة إلى العلاقة الأولى بين الإنسان والعالم الطبيعي؛ تلك العلاقة التي تُضيء حينًا وتختفي حينًا، لكنها تظل جذوةً لا تنطفئ.
«على حافة المعرفة».. إقامة فنية تلتقط ما بين الوعي والغياب
تأتي إقامة مساحة - الدورة العاشرة لتضيف بعدًا بحثيًا وفلسفيًا عميقًا إلى الأسبوع. يحمل البرنامج عنوان «على حافة المعرفة»، في إشارة إلى أن الهوية الإنسانية ليست ثابتة، وأن الحقيقة ليست نقطة واحدة بل مجال واسع يتغير باستمرار.
12 فنانًا من خلفيات متعددة خاضوا تجربة إقامة استمرت ثلاثة أشهر في صالة الأمير فيصل بن فهد بالرياض، بحثوا خلالها في المناطق التي تلتقي فيها الذاكرة مع الإدراك، والخيال مع التجربة، والحقيقة مع ما يظل خارج حدود الفهم.
ومن الأسماء المشاركة: أحمد حداد، أسما الشريهي، جود فهمي، لولو الغفيلي، شادن هشام، سارة الإدريسي، شي نينغ، وغيرهم.
يُختتم البرنامج خلال أسبوع مسك للفنون، ليتمكن الجمهور من مشاهدة الأعمال وهي تتكشّف تباعًا، وتتحوّل إلى سرد بصري يلتقط ما هو خفي وما لم يُقَل.
«الفن عبر الخليج العربي».. ذاكرة بصرية تمتد لجيل من المبدعين
يمثل معرض «الفن عبر الخليج العربي» أحد أكثر معارض الأسبوع ثراءً واتساعًا، ممتدًا حتى 31 مارس 2026.
يضم المعرض أكثر من 150 عملاً فنياً قدمها 70 فنانًا من مختلف دول الخليج العربي، ليشكّل بانوراما بصرية واسعة تعيد استحضار التحولات التي عاشتها المنطقة خلال عقود من التحديث والنهضة.
لا يستعيد المعرض تاريخ الفن الخليجي فحسب، بل يحتفي بجيل كامل أسهم في تشكيل الوعي الجمالي الخليجـي، ويعرض أعمالًا تُجسّد العلاقة بين المكان والإنسان، بين العمارة المتغيرة والهوية المتجذرة، وبين الذاكرة الجمعية والبحث عن المستقبل.
فضاءات المعرفة والتجربة: الكتب.. الجاليريات.. وسوق الإبداع
لا يكتمل المشهد دون معرض الكتب الفنية الذي يجمع في نسخته الثالثة ثمانية زيِن و12 ناشرًا محليًا وإقليميًا وعالميًا، مقدّمًا إصدارات جديدة تعزز من دور الكتاب كركيزة للبحث والتوثيق الفني.
كما يحتضن الأسبوع تسع صالات عرض سعودية بارزة، من بينها: تجريد، مرسمي، حافظ، ضاوي، إرم، مونو، ورد، وسنرجي، السبع الرطب. حيث قدمت مساحة نابضة لتجارب فنية قابلة للاقتناء والاكتشاف.
وفي سوق الفن والتصميم، يلتقي أكثر من 90 مبدعًا في منصة إبداعية تشكّل نموذجًا جديدًا للسوق الفنية، حيث يصبح التفاعل والبيع والاكتشاف حوارًا واحدًا يجمع الفنان والجمهور في بيئة مفعمة بالابتكار.
برامج تعليمية تُلهم وتبني وتُعيد تشكيل الوعي
يمتاز أسبوع مسك للفنون ببرامج تعليمية متدرجة تشمل:
* جلسات إرشادية فردية بين الفنانين وخبراء عالميين.
* Masterclass متخصصة بالتعاون مع مؤسسات مرموقة مثل Paris Musée، Toledo Museum of Art ،The Design Museum.
* ورش عمل للعامة في التصميم والتصوير والمانجا والحرف اليدوية.
وتستمر زيارات المدارس طوال الفترة من 1 إلى 10 ديسمبر، بمشاركة 16 مدرسة وأكثر من 600 طالب، إضافة إلى العروض الأدائية والموسيقية العالمية التي تملأ المكان بنبرة احتفالية تتناغم مع روح الفن.
الأثر: حين يتحوّل الحدث إلى حالة ثقافية ممتدة
لم يعد أسبوع مسك للفنون مجرد فعالية تُقام مرة كل عام؛ بل أصبح حدثًا يترك أثره العميق في المجتمع عبر:
* دعم الفنانين وتمكينهم من تطوير رؤاهم.
* تعزيز حركة الاقتناء والفنون البصرية في المملكة.
* خلق بيئة تعليمية تقرّب الفن من الأجيال الجديدة.
* بناء جسور متينة بين الفنان والجمهور والمؤسسات الثقافية.
إنه حدث يصوغ ملامح الريـاض كمدينة ثقافية عالمية، ويجعل الفن جزءًا أصيلًا من الحياة اليومية.
معهد مسك للفنون: رؤية تتسع للجميع
تأسس معهد مسك للفنون عام 2017 ليكون منصة تمكّن الفنانين وتحتضن الإبداع في المملكة والمنطقة.
ومن خلال برامجه المتنوعة - من المعارض إلى الإصدارات الفنية، ومن الإقامات إلى الورش - استطاع المعهد أن يخلق حركة فنية مستدامة.
ومن 2018 حتى 2025، حقق المعهد:
* 1.566 برنامجًا ومبادرة
* 40.456 مستفيدًا
* 95 معرضًا فنيًا وعروض أعمال
* 79 كتابًا ومنشورًا
* 2.362.994 زائرًا فعليًا
* 22.207 زيارة مدرسية
هذه الأرقام تحكي قصة مؤسسة ثقافية تؤمن بأن الإبداع ليس رفاهية؛ بل ضرورة تنموية ومعرفية تُسهم في تشكيل مستقبل الفن في المملكة.
* * *
- إعداد: عبدالله عبدالرحمن الخفاجي/ إكس: AL_KHAFAJII