د.عبدالرحيم محمود جاموس
تحول أوروبي تاريخي يفتح الباب أمام فرض إرادة الحق الفلسطيني.
«ستبقى فلسطين، رغم الجراح والخذلان، عصية على الطمس والضياع، لأن جذورها أعمق من كل عدوان، وحقها أقدم من كل محتل».
بعد عقودٍ من النضال الفلسطيني الطويل، تتجه أنظار العالم مجددًا إلى فلسطين، ليس فقط كقضية إنسانية عادلة، بل كحقيقة سياسية لا يمكن إنكارها.
لقد جاءت موجة الاعترافات الأوروبية الأخيرة - الإسبانية والفرنسية والبريطانية - لتفتح نافذة جديدة في جدار الصمت الدولي، وتعيد الاعتبار للحق الفلسطيني في الاستقلال والسيادة وعاصمته القدس. هذه الاعترافات ليست مجرد مواقف رمزية أو دعائية، بل هي مؤشر على تحوّلٍ في المزاج السياسي الدولي تجاه إسرائيل بعد ما ارتكبته من جرائم إبادة في قطاع غزة، وتهويدٍ ممنهج في القدس والضفة الغربية.
العدوان الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر 2023 م، وما سبقه من حصارٍ دامٍ على غزة، كشف للعالم أجمع أن الاحتلال لا يسعى إلى أمنٍ أو دفاعٍ عن النفس، بل إلى تكريس منطق القوة والعقاب الجماعي والتطهير العرقي.
مشاهد الدمار والمجازر، والقتل الممنهج للمدنيين، وحرمانهم من الماء والغذاء والدواء، كانت كفيلة بأن تزلزل ضمير الإنسانية، وتحرّك كثيرًا من الحكومات الأوروبية التي طالما التزمت الحياد المزيّف.
إنّ اعتراف مدريد وباريس ولندن بالدولة الفلسطينية يشكّل كسرًا لجدار الهيمنة الأمريكية التي احتكرت إدارة الصراع وأفرغت قرارات الشرعية الدولية من مضمونها، هذا التحوّل الأوروبي يحمل في طيّاته رسالة مزدوجة:
أولاً، أن العالم لم يعد يحتمل سياسة الإفلات من العقاب التي تتمتع بها إسرائيل، وثانيًا، أن الشعب الفلسطيني، رغم نزيفه الطويل، ما زال يمتلك شرعية وجوده ونضاله وحقه في تقرير مصيره على أرضه التاريخية.
غير أن الاعتراف وحده لا يكفي، ما لم يترافق مع إرادة سياسية حقيقية لحماية هذا القرار وترجمته إلى واقع.
فالدولة الفلسطينية لن تولد من رحم المجازر، ولا من رحم الانقسامات الداخلية التي شتّتت القرار الفلسطيني وأضعفت الموقف الوطني.
المطلوب اليوم هو توحيد الصف الفلسطيني على أساس برنامج وطني جامع في إطار يعيد الاعتبار لمؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ويضع حدًا للازدواجية والتنافس الفصائلي الذي عطّل مسيرة التحرر، واتكأت عليه إسرائيل للتهرب من استحقاقات التسوية السياسية.
لقد أثبتت تجربة «طوفان الأقصى» وما تبعها من دمارٍ شامل في غزة، أن المقاومة مهما كانت شجاعتها لا يمكن أن تُثمر نصرًا سياسيًا دون غطاء وطني موحد، وإستراتيجية مقاومة ذكية تجمع بين الحق في الدفاع عن النفس والعمل الدبلوماسي الفاعل.
الاعترافات الأوروبية هي ثمار نضال طويل، ودعم الأمير محمد بن سلمان لكنها أيضًا مسؤولية وطنية كبرى تتطلب رؤية فلسطينية جديدة قادرة على تحويل الدعم الدولي إلى مكسب سياسي دائم لا إلى محطة عابرة.
إن الموقف العربي الرسمي مطالب اليوم بالتحرك الجاد لتوظيف هذه الاعترافات كرافعة سياسية جماعية، تضع إسرائيل أمام استحقاق السلام العادل، وتمنح الدبلوماسية الفلسطينية غطاءً عربيًا قويًا يعيد التوازن إلى العلاقات الدولية.
فالمعركة لم تعد فقط مع الاحتلال، بل مع نظامٍ دولي مأزومٍ يتردد في إنفاذ قراراته، وتشلُّه الولايات المتحدة الأمريكية فيما يخص إنهاء الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وتحقيق تسوية نهائية على اساس تنفيذ قرارات الشرعية الدولية.
إن الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية لم تعد حلمًا بعيدًا، بل بات خيارًا واقعيًا فرضه صمود الشعب الفلسطيني وإصراره على الحياة والحرية، رغم العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة خاصة وأراضي دولة فلسطين المحتلة عامة.
ستبقى فلسطين، رغم الجراح والخذلان، عصية على الطمس والضياع، لأن جذورها أعمق من كل عدوان، وحقها أقدم من كل محتل.
وإن تأخر الاستقلال يومًا، فإنه آتٍ لا محالة... ولو بعد حين.