د. تنيضب الفايدي
تحتضن المدينة المنورة عدداً من الأودية التاريخية الشهيرة مثل: وادي العقيق، ووادي بطحان ووادي مهزور وغيرها، ومن تلك الأودية وادي الخنق الذي يقع شرق المدينة المنورة في حرة واقم، ويبدأ من قاع حضوضاء وعندما يمتلئ بالماء الذي يسيل إليه من جبال حضوضاء والجبال الأخرى المحيطة به، يتجه نحو الشمال الغربي، ثم يقطع الطريق السريع بين المدينة والقصيم، وبعد ذلك يفرغ ماءه في قاع العاقول جنوب مطار المدينة المنورة، ثم تخرج مياه هذا القاع باسم وادي العاقول وتتجه غرباً لتمر بمقبرة شهداء أحد رضي الله عنهم، حيث يسمّى وادي قناة الذي يصب في وادي العقيق الشهير (مجمع الأسيال) لتشكل جميع أودية المدينة وادياً واحداً يطلق عليه وادي إضم تاريخياً (وادي الحمض حالياً) الذي يصبّ في البحر الأحمر بين الوجه وأملج، ويعتبر وادي الخنق من أهم أودية شرق المدينة المنورة، ومنطقة الخنق التي أطلق عليها اسم الوادي عبارة عن نقطتين ضيقتين وكلتا النقطتين أقيم عليهما سد في زمن معاوية رضي الله عنه عندما كان أميراً للمؤمنين بموجب النقش التأسيسي المثبت فوق قمته في الجهة الجنوبية الغربية، وتتكون من عشرة أسطر نفذت بالخط الكوفي البسيط غير المنقوط وذلك بصيغة: «بسم الله الرحمن الرحيم/ هذا السد لعبد الله/ معاوية أمير المؤمنين/ اللهم بارك له فيه رب/ السموات والأرض/ بناه أبو رداد مولى/ عبد الله بن عباس بحول الله وقوته/ وقام عليه كثير بن/ الصلت وأبو موسى. وأقيم عليهما السد لحجز المياه بحيث يكوّنان بحيرة خلفية بطول 1600 متراً وعرض 350 متراً، أي: بسعة إلى حوالي 560.000 متراً مكعباً من المياه، وتوجد على امتداد وادي الخنق كثرة المناطق المنخفضة والتي يطلق عليها: قيعان وشعاب تتجمع فيها مياه السيول والأمطار، وهذه المنطقة تربتها صالحةٌ للزراعة، لذا فقد استغل المسلمون في العصور الإسلامية المبكرة هذه المناطق للزراعة وأقاموا عليها السدود وحفروا الآبار لريّ هذه الزراعة، وهذان السدّان نموذجان للتقدم المعماري والهندسي للمسلمين في العصور الإسلامية المبكرة، فالسد الأول يقع في أضيق نقطة على وادي الخنق، ويتعجب المرء للبراعة المساحية (الجيولوجية) لمن اختار هذا المكان، فإن هذا المكان هو أضيق نقطة على طول هذا الوادي كله، ولعلّ اسم الوادي (الخنق) اكتسب من هذا الممرّ الضيق ذي الجوانب العالية، ولم يبق هذا السد إلا كتلتان كبيرتان على الجانبين، أما الجء الأوسط فقد انهار تماماً، وما تبقى من السدّ رغم مرور أكثر من 1400 سنة تقريباً على إنشائه لهو دليلٌ على قوة بناء هذا السد وشدة صلابته ومقاومته للكسر، وقد بني السد بشكل متدرج بحيث تكون قاعدته أعرض من قمته، حيث يصل عرض السد عند القاعدة 17.5 متراً ويصل عرض جدار السد العلوي حوالي 12.70 متراً ويبلغ طول السد حوالي 56 متراً وقد استخدمت في بناء السد الحجارة النارية (بازلتية) الممزوجة بالمونة المكونة من النورة المصهورة، وإلى الغرب من السد الأول يقع السد الثاني، حيث بني في نقطة ضيقة أخرى تنصرف إليها سيول الوادي عند امتلاء بحيرة السد الأول منعاً لتسرب المياه،ويتضح من رؤية السدين وأسلوب بنائهما من حيث السماكة والارتفاع أنهما كانا يحجزان أكبر كمية من مياه وادي الخنق ويمكث تلك المياه لمدة طويلة بحيث يستفيدون في ري الزراعة، وعلى كلّ حال فما تبقى من السد يعطي عن أسلوبه المعماري والهندسي، كما أن بناء السد في أضيق موقع لهو دليلٌ على تقدم المسلمين في ذلك الزمن.
ويعتبر وادي الخنق من أهم أودية شرق المدينة المنورة، وقد تناقل المؤرخون خطأ جسيماً بأن سيل وادي الخنق يأتي من الطائف ليصبّ في العاقول، ولا علاقة للسيل الذي يأتي من الطائف (وادي العشيرة) بسيل وادي الخنق أو العاقول، حيث تحول جبال وحرار بمسافة (400) كيلومتر تقريباً دون وصول أي قطرة من الطائف؛ ووقع في هذا الخطأ ابن زبالة في كتابه أخبار المدينة وهو من أقدم الكتب التي ألفت عن المدينة النبوية حسب التسلسل التاريخي، وابن زبالة هو محمد بن الحسن القرشي المخزومي المدني، أبو الحسن، وقيل: أبو عبد الله، ويعرف بابن زبالة،(زبالة حي من أحياء المدينة النبوية قديماً) المتوفى سنة (199هـ) أي: أن ميلاده ربما بعد المائة الأولى للهجرة وهي أفضل القرون، وهو من أصحاب الإمام مالك بن أنس وكان له باع طويل في حفظ الأخبار ووصف الأماكن والديار، وكتابه حقق من قبل د. صلاح عبد العزيز زين سلامة، وابن زبالة أول من قال بأن سيول قناة إذا استجمعت تأتي من الطائف.
ثم جاء بعده أبو الحسن المعروف بالمدائني واسمه علي بْن مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن أَبِي سيف (135-225هـ) واشتهر بالأدب والتاريخ، وتكررت العبارة لديه بأن وادي قناة وادٍ يأتي من الطائف ويصب في الأرحضية وقرقرة الكدر ثم يأتي بئر معاوية ثم يمر على طرف القدوم. ثم نقل تلك العبارة المحدث المؤرخ أبو زيد عمر بن شبة النميري البصري (173-262هـ) في كتابه تاريخ المدينة المنورة، حيث نقل عن وادي قناة وقال: «وادي قناة يأتي من وج الطائف ويصب في قبور الشهداء في أحد».
ثم نقل عنه الشيخ الإمام شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الحموي الرومي البغدادي (المتوفى 626هـ) بأن قناة وادٍ يأتي من الطائف ويصب في الأرحضية وقرقرة الكدر ثم يأتي بئر معاوية ثم يمر على طرف القدوم.
كما نقل نفس العبارة مجد الدين بن محمد بن يعقوب الفيروزآبادي (المتوفى729-817هـ) «وقناة وادٍ يأتي من الطائف ويصب في الأرحضية وقرقرة الكدر ثم يأتي بئر معاوية ثم يمر على طرف القدوم».
ثم نقل نفس العبارة السمهودي وهو الشريف نور الدين علي بن عبدالله الحسني السمهودي (المتوفى 911هـ) «وقناة وادٍ يأتي من الطائف ويصب في الأرحضية وقرقرة الكدر ثم يأتي بئر معاوية ثم يمر على طرف القدوم».
هؤلاء العلماء رحمهم الله بذلوا جهوداً في تاريخ المدينة النبوية حتى وصلت إلى الأجيال الحالية ولكنهم وهموا في وادي قناة عندما جعلوا بدايته من الطائف، والواقع عكس ذلك، حيث تمّ تتبع وادي قناة واتضح بعد ذلك حسب الواقع الميداني والحديث للكاتب بأن نهاية سيول الطائف تصبّ في القاع الكبير الذي يبلغ طوله 60كم، يقولون بأن سيل عقيق الطائف وغيره من السيول لو استمرت أشهراً لن يصل ارتفاع الماء في القاع إلى (شراك النعل)، وأقول بأن سيل الطائف لا يصل منه إلى المدينة ولا قطرة ماء واحدة؛ لأن هذا القاع تحجزه حرة (أرن) وهي حرة طويلة تصل من الشرق إلى طريق الهجرة ثم تستمر إلى حجر وتواصل غرباً بعدها، كما يخترق وادي الخنق مرتفعات جبلية يصل ارتفاعها إلى ما يزيد عن 900 متر فوق سطح البحر. ومن هذه الجبال: جبال حضوضاء، وجبال الغُبَى، جبال السد ، وجبال تيم. ويشق هذه الحرة (حرة أرن) طريق زبيدة إلى مكة وعلى تلك الحرة عدة قرى مثل: البراقية، الصلحانية، مشوقة، وأم الغيران، وقبل الوصول إلى تلك القرى بلدة صفينة، وقد كررت الزيارات لتلك القرى مع المكوث ليلاً في كلّ واحدة منها قبل أكثر من خمسين عاماً، والمسافة بين بدايات مسيل وادي قناة والقاع الذي يصبّ فيه وادي عقيق الطائف لا تقل عن 300 كم.
- - - - - - - -
المراجع:
أخبار المدينة المنورة لابن شبة، المغانم المطابة للفيروزآبادي، وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى للسهمودي، معجم البلدان للحموي، دراسات في الآثار الإسلامية المبكرة تأليف: الدكتور سعد الراشد، الأودية والآبار في مدينة المختار للدكتور/ تنيضب الفايدي.