د. أحمد محمد القزعل
في كلّ ركن من القلب فصل مختلف يكتب رسالته بطريقته الخاصة، لكنَّ الرسائل كعادتها تضيع في منتصف الطريق، وتبقى عالقة بين الذاكرة والغياب، في ربيع القلب كانت الرسائل مفعمة بالحياة، كان الحبر أخضر اللون كالأمل، والكلمات تنبت كما تنبت الأزهار بعد مطر طويل.
كتبت عن البدايات التي تشبه الأغنية الخجولة في صباح صاف، وعن اللقاء الأول الذي يشبه قطرة الضوء التي تتسلَّل إلى العيون قبل أن تدركها المفاجأة، كان الربيع ساذجاً يشبه الأطفال الذين يصدقون أن كل وعد صادق، وأن الزمن لا يسرق أحداً، كنت أظن أن الرسائل ستصل، لكنَّ الربيع مضى وبقيت الأوراق على الطاولة تنتظر من يفتحها.
ثم جاء صيف القلب حارّاً متّقداً لا يعرف الصبر ولا الهدوء، هناك تحوّلت الرسائل إلى حرائق صغيرة، أُكتبها على عَجَل وكأنّي أريد الهروب من نفسي، كلّ حرف كان يشتعل قبل أن أصل إلى النقطة الأخيرة، في هذا الفصل لا وقت للمشاعر المرتّبة، فالعاطفة فيه فوضى من اللهفة والندم.
تسلَّل خريف القلب بخطوات واثقة، صار الحبر باهتاً كالأوراق التي تتساقط واحدة تلو الأخرى، هنا بدأتُ أكتب أقل وأفهم أكثر، صارت الرسائل موجعة بصمتها أكثر من كلماتها، في هذا الفصل تتعرَّى الحقيقة كما تتعرَّى الأشجار، ولا يبقى في القلب إلا ما هو ضروري للبقاء، الخريف لا يكتب ليُقال، بل يكتب ليتخلَّص، ليتنفَّس، ليترك الأشياء تمضي دون مقاومة.
حين حلَّ شتاء القلب لم أعد أكتب على الورق، بل على الضباب المتكاثف على نافذة الوحدة، كانت الرسائل تخرج دافئة من القلب، لكنها تبرد قبل أن تصل، صارت يداي ترتجفان لا من البرد، بل من خوفي أن أكتب شيئاً جديداً يشبه الفقد القديم، ومع ذلك في هذا الصقيع هناك دفء خفيّ، دفء الذاكرة حين تحتضن ما تبقّى من مواسمنا المنقضية.
الرسائل لم تصل نعم، لكنها لم تضع، لقد اختبأت في الطريق بين فصول القلب الأربعة، وصارت جزءاً من حكايتنا التي لم تُكتَب كاملة، كلّ فصل فيها يحمل صوته ورائحته وحزنه ونوره، وربما حين يحين الربيع القادم ستجد هذه الرسائل طريقها إلى يد تعرف كيف تقرأها دون أن تحرقها، إلى قلب جديد يفتح نوافذه دون خوف من الفصول.