د. ناهد باشطح
فاصلة:
«أسوأ الأكاذيب هي الحقائق التي تُروى خارج سياقها».
- نيتشه -
* * *
عندما أقرأ كلمة «عاجل» في الأخبار، ينتابني الفضول لمعرفة أي حدث مهم يستحق الانتباه، لكن بعض الحسابات الإخبارية على منصات التواصل الاجتماعي، خصوصًا «تويتر»، كسرت هذه القاعدة حين بدأت تستخدم كلمة عاجل لتسويق أخبار مضللة.
هذه الكلمة التي كانت رمزًا للموثوقية أصبحت اليوم تُستخدم بلا ضوابط، حتى باتت الحسابات الإخبارية في تويتر تنشرها لجذب الانتباه وهكذا تحوّلت عاجل من إشارة جدّية إلى أداة تسويقية، وربما وسيلة للتضليل.
أحد أبرز الأمثلة كان الفيديو المتداول والذي نشره أحد الحسابات الإخبارية في تويتر عبر تغريدة مع صورة.
تقول التغريدة «عاجل وغير عادي، لوحظ مساعد ولي العهد السعودي يكتب ويدون حديث الرئيس ترامب والأمير محمد بن سلمان في البيت الأبيض».
قُدّم المشهد مجتزئاً من الفيديو الأصلي الذي جمع القائدين وخلف كل منهما من يدون الملاحظات المهمة في اللقاء، بينما الحساب الإخباري نشر صورة مع التغريدة بها صورة القائدين والرجل الذي خلف الأمير محمد بن سلمان فقط وسهم أحمر يشير إليه ليوصل للقارئ أن المشهد «غير عادي»، بينما هو في الحقيقة جزء أصيل من البروتوكول الدبلوماسي العالمي، ففي الاجتماعات الرسمية بين رؤساء الدول، من المتعارف عليه وجود مساعد دبلوماسي Note-taker ؛ يُدوِّن كل شيء يدويًا.
ما الذي فعله الحساب المضلّل في تويتر؟
الحساب لم يفبرك الصورة، بل لجأ إلى أسلوب أكثر خفاءً وتأثيرًا: التزييف السياقي. فقد قصّ جزءًا ضيقًا من الصورة يظهر فيه رجل يكتب، ثم وضع فوقه سهمًا أحمر كبيرًا، وكأن هناك «سرًّا» يجب الانتباه إليه.
هذا السهم، رغم بساطته، يؤدي وظيفة قوية في تضليل الجمهور؛ إذ يمنح العين سببًا للارتياب، ويدفع المتابع لملء الفراغات بخياله، لا بالحقائق. وهذا النوع من الإشارات يخلق إطارًا ذهنيًا جاهزًا قبل أن يفهم المتابع ما يراه، فيتشكّل الانطباع الأولي على أساس الريبة، لا على أساس المعلومات.
وبمجرد أن يتبنّى الجمهور هذا الانطباع، يصبح من الصعب تفكيكه لو ظهرت الحقيقة لاحقًا، وهذا ما يجعل التزييف السياقي خطرًا مضاعفًا فهو يستغل جزءًا صحيحًا لكنه يحمّله معنى لا يملكه. تكمن خطورة تلك التغريدة في أنها تعمل على التضليل البصري السريع، وحين يُقدَّم المشهد «البروتوكولي» على أنه أمر خطير، فإن الهدف ليس الرجل الذي يكتب.. بل المؤسسة التي يمثلها.
إن إعادة تشكيل الرأي العام عبر القصّ لا الكذب هو من أخطر أشكال التضليل؛ لأنها تعتمد على نصف الحقيقة، ما يجعلها قابلة للتداول دون مقاومة.
فغياب السياق يترك مساحة لخلق روايات، وكل رواية قد تتحوّل إلى «قناعة».
إن التزييف السياقي اليوم هو الوجه الأكثر تطورًا للمعلومات المضللة؛ فهو لا يكذب، بل يغيّر طريقة رؤية الحقيقة، وهنا يصبح دور الصحافة الحقيقية مضاعفًا لكشف السياق، لا الصورة فقط.
تنجح هذه الأساليب بسبب نقص الوعي الإعلامي، وحب الجمهور للعناوين المثيرة، والثقة المفرطة في الحسابات التي تبدو «رسمية».
ولحماية أنفسنا من التزييف السياقي، علينا أن نسأل: هل تكفي الصورة للحكم؟ هل هناك «بروتوكول» معروف يفسر المشهد؟ هل يستخدم الناشر لغة إثارة؟
إن الخطر اليوم لا يكمن في المحتوى المزيف فقط، بل في المحتوى الحقيقي حين يُعاد ترتيب سياقه، وهنا تبدأ مسؤولية الصحافة في كشف الأساليب الخفية قبل نقل الأخبار، ومسؤولية القراء في إدراك التزييف في الأخبار.