صالح بن عبدالكريم المرزوقي
حينما يتحول الراوي إلى (حكواتي) نجد أنه دائما ما يحاول أن يمط ويزيد ويحرف في القصص التي يرويها، وذلك لجذب الانتباه دون تدقيق أو تمحيص من صحة القصة من عدمها، فالمهم هو التواجد والحضور ترويجا لبضاعة.
وهذا ما ظهر في إحدى الحلقات التي يقدمها الإعلامي اللامع عبدالله المديفر؛ حيث كان ضيفه في إحدى الحلقات الراوي محمد الشرهان والذي تطرق لقصيدة القهوة ورهانها المزعوم الذي أصبح مادة دسمة لبعض (الحكواتية) الذين يتناقلونها فيما بينهم وكل يسردها بطريقته الخاصة، والحقيقة أنني من خلال سماع للقصة عجبت من الراوي الذي مازال مصرا على ترديدها في كل مناسبة رغم ما واجهه من انتقادات، سواء كانت مشافهة أو عبر الصحافة، فسبق لي أن كتبت عن هذه القصة عبر صحيفة الجزيرة قبل سنوات تحت عنوان (قصيدة القهوة للقاضي والرهان المزعوم).
كما كتب غيري من المهتمين بالشأن الشعبي والغريب إن الراوي استمر يكررها وفي كل مرة يعيدها بسيناريو مختلف: ففي هذه المرة اقحم مجالس السمر في مدينة عنيزة في روايته حينما قال إنها تبدأ بعد صلاة العصر حتى العشاء وهذا غير صحيح، فعنيزة في ذلك الزمن تعتبر من أكبر المدن في نجد سواء من حيث العدد السكاني أو النشاط التجاري والزراعي ووقت العصر يعتبر وقت الذروة من حيث الحركة التجارية، سواء في سوق المجلس والذي يعتبر من أكبر أسواق الإبل والخيل آنذاك لتواجد البادية، أو من خلال حركة البيع والشراء من خلال الدكاكين المتراصة على امتداد السوق الذي يعج بالحركة فجل المواطنين يتواجدون في السوق الذي وصفة الشاعر عبدالله بن دويرج المتوفي عام (1356) هجرية حيث يقول:
الا ميزت سوق العصر فيها مثل نفخ الصور
قريب من نهار العرض فيه العقل يهتالي
ذكرت الله بنفسي عن جميع البادية وحضور
على سوق سقاه من المعزة صيب بالي
لذا، فمجالس السمر تبدأ من بعد صلاة العشاء مباشرة اما بعد صلاة المغرب فهو وقت تناول طعام العشاء وهناك من يتناوله قبل الصلاة، أما حديثه عن النساء وجلوسهن بالقرب من مجلس الرجال لاستماع احاديثهم فهذا لا صحة له؛ فمجالس النساء عادة ما تكون وقت الضحى لتبادل الاحاديث وتناقل الأخبار.
أما في ما يخص القصة المرافقة للقصيدة فقد أوضحت ذلك في المقال آنف الذكر ومن أهم النقاط التي أوردتها أن مثل هذا الرهان وما صاحبه لا يمكن حدوثه في مجتمع نجدي محافظ على دينه وقيمة الأخلاقية وتقاليده الاجتماعية، فلا يمكن لعاقل أن يصدق أن هناك من سيدفع بابنته إلى مجلس الرجال لكي يكسب رهانا هو وأصحابه، خصوصا وان طرف الرهان شخصية اعتبارية بارزة في المجتمع وهو (القاضي) إضافة إلى أنه لم يظهر من أسماء أقطاب الرهان الوهميين سوى القاضي مع أن أصحابه وجلسائه من علية القوم وهذا دليل على أنها نسجت بعد وفاة القاضي بسنوات.
الأمر الثاني، أنه من المستحيل أن نجد شاعرا لا يقول سوى الغزل والقاضي مثله مثل غيره من الشعراء وليس استثناءً فقد طرق العديد من أغراض الشعر مثل الحكمة والنصح والمدح والوصف والرثاء وغير ذلك من الأغراض الشعرية نذكر منها على سبيل المثال قصيدته في الفلك والتي مطلعها:
سبك نجوم الدهر بالفكر حاذق
حوى واختصر مضمونها بامر خالق
أيضا قصيدته بالفكر ومطلعها:
الصبر محمود العواقب فعاله
والعقل اشرف ما تحلى به الحال
كذلك قصيدته التي مطلعها:
افكرت بالدنيا وهيضت مكتوم
ما حان في ليحان فكري وحامي
أيضا له قصيدة مطلعها:
اجل عنك ما الدنيا بيلحق لها تالي
غرور ترد الحزب الاول على التالي
كذلك له قصيدة مطلعها:
إلى افكرت بالدنيا تكدر لي الصافي
تعذر زماني ما حصل صاحب صافي
وله قصيدة استغاثة مطلعها:
لعل براق صدوق خياله
محن مرن مرجحن وهطال
أيضا قصيدته في مدح أمير حائل طلال الرشيد:
طلال لو قلبك حجر أو حديدي
امداه من حامي لهيب الوغى ذاب
كذلك القصيدة التي رثى فيها طلال الرشيد:
اجل عنك ما الدنيا إلى عاهدت تافي
تزخرف وهي لابد يبقى لها قافي
وله قصيدة حربيية قالها على لسان أمير عنيزة عبدالله اليحيى مرسلة للإمام فيصل بن تركي مطلعها:
راكب فوق حر زاهي دله
من شواحيف شط حي ركابه
سر وملفاك فيصل حاكم قله
بقطع الحبل كثر المس جذابه
فكل هذه القصائد لا علاقه لها بالغزل بل في مجالات متعددة من أغراض الشعر، وأعتقد أن هذه النماذج كافية لنسف تلك الفرية التي الصقت بالقاضي من قبل بعض الرواة والحفظة الذين ينقسمون إلى قسمين: قسم يدرك عدم صحتها ولكنه يرددها ترويجا لبضاعته كما اسلفنا والقسم الآخر مجرد حفظه يرددون ما حفظوه، ولعل الأمر المهم الذي غاب عن الراوي ومن سار على نهجه والذي يدركه كل من له معرفه بالشعر الشعبي أن بداية القصيدة كان بالغزل فالمطلع يقول:
يامل قلب كل ما التم الاشفاق
من عام الأول به دواكيك وخفوق
يجاهد جنود في سواهيج الاطراق
ويكشف له اسرار كتمها بصندوق
لاعن له تذكار الاحباب واشتاق
باله وطف بخاطره طاري الشوق
هذه الابيات الثلاثة توحي بأن بداية القصيدة غزلية فهو يقول حينما يقبل الليل تدك به الهواجس وتتكشف له الاسرار التي كتمها بصدره وذلك حينما يعن له تذكار الاحباب فيزداد شوقه ولهفه على المحبوب بعدها بدا بوصف القهوة التي كانت تسامره في وحدته حيث يقول:
قربت له من غاية البن مالاق
بالكف صافيها عن العذف منسوق
ثم استمر في وصفه لها والذي يعتبر من أفضل ما قيل في وصف القهوة حيث ختم القصيدة بأبيات غزلية كما بدأها، ولو كان الرهان صحيحا لأمسكو ببداية القصيدة وفازوا بالرهان وهذا ما يجعلنا نجزم بأنه من وحي الخيال؛ فكل واحدة من المبررات التي سقناها كافية لنسفه جملة وتفصيلا، ولا أعتقد أن هناك من يصدقه سوى البسطاء من العوام الذين تستهويهم مثل تلك القصص والحكايات دون تمحيص للتحقق من صدق الرواية من عدمه، ولكن المشكلة أن جل من تصدروا المشهد في مجال الرواية في الادب الشعبي قد طاروا في العجه واخذو ينسجون سيناريوهات مختلفة حول هذه القصة كل على طريقته؛ فأحد الرواة ممن ركبوا الموجة لم يحسن التجديف حينما حاول التمليح من خلال رسم سيناريو مختلف عن زملائه (الحكواتية) فقال إن محبوبة القاضي المعنية بالقصيدة بنت أمير عنيزة وأن اسمها (شقاق) واستشهد ببيت ظنا منه أنه من قصيدة القاضي، علما بأن البيت من قصيدة أخرى للشاعر عبدالله بن جابر والذي يقول:
والله لو يمشي شقاقٍ بالأسواق
بين الملا ما يمطخ الخمس مخلوق
ومطلع قصيدة ابن جابر:
يا مل قلب من هوى البيض منعاق
في سجن دين عن الاحباب ما سوق
والقصيدة على وزن وقافية قصيدة القاضي ومنها البيت المذكور الذي ورد فيه كلمة شقاق والتي لم تكن اسما ولكن الشاعر كان يقصد أن محبوبه لو مشى في السوق وكشف عن بعض ملامحه لبهر الناس بجماله، وهذا دليل على أن بعض هؤلاء الرواة ليسوا متعمقين بالشعر وفهم معانيه وأغراضه، ولكنهم مجرد حفظة وناقلين يرددون ذلك عبر القنوات وفي وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها.