د. محمد بن عبدالله السلومي
إن حمل هموم الأمة ومواساة كل محتاج والشفاعة له أمران متلازمان لدى كثير من أهل الصلاح، وهما السبيل لتحقيق خيرية المسلم في مجتمعه وأمته. وأحسب -والله حسيبه- أن الأخ الشيخ محمد بن صالح الزيدي (1372-1447هـ)، الصديق العزيز في دروب العلم والمعرفة، وفي حب الخير للغير، والاهتمام بشؤون الأمة، ممن يُعدُّ من هؤلاء المعنيين بهذا الحديث النبوي، فهو من رموز الدعوة والعلم والعطاء الخيري في محافظة الرس وفي المدينة النبوية.
لقد تفرغ أبو صالح للعلم، وإعانة المحتاجين من طلبة العلم وطلاب الجامعة الإسلامية، وسائر ذوي الحاجات المُلحة، بمعونات متواضعة مباركة، يصدق فيها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنطوقه ومفهومه (سبقَ دِرهمٌ مائةَ ألفِ درهمٍ، قالوا: وَكَيفَ؟ قالَ: كانَ لرجلٍ درهمانِ تصدَّقَ بأحدِهِما وانطلقَ رجلٌ إلى عُرضِ مالِهِ، فأخذَ منهُ مائةَ ألفِ درهمٍ فتصدَّقَ بِها) [صحيح النسائي: 2527]، وهذا مما يدعو كل مسلم، بغض النظر عن موارده المالية، إلى العمل بهذا الحديث العظيم الذي رفع من شأن عطاء أصحاب الدخول المحدودة والمتواضعة، فجعلهم في مصاف الأغنياء والمُعطِين، إن لم يكن أجرهم وثوابهم أعظم.
كتب الدكتور مصطفى بكري السيد -رحمه الله- مقالاً عن أبي صالح واهتماماته، كشف فيه ملامح من شخصيته ومحطات من حياته، وتطرق أيضاً إلى جلسائه واهتماماتهم، وإلى القهوة (الديوانية) التي كان يرتادها أبو صالح كثيراً في قرية الشنانة بالرس، والتي كانت مملوكة لأحد شيوخه.
ووصف المقال تلك القهوة بأنها: «أشبه بالمصحَّات النفسية والمَطْهر الروحي». ولارتياد أبي صالح لهذه القهوة كثيراً، جاء عنوان المقال بكنيته (قهوة أبي صالح)، وكانت هذه المُلازَمة لمجلس هذه القهوة من محبة أبي صالح للعلم والدعوة، وشغفه بأعمال الخير ومجالسة طلبة العلم والعلماء، وقد ورد هذا الوصف من خلال هذا المقال المنشور السابق ذكره، وهو الصادر عام 1408هـ، وفي المقال الذي يصف المكان وروَّاده وشيئاً من الواقع ومنهم أبو صالح.
وتميزت حياة أبي صالح اليومية بأنها بعمومها محطات ومراحل مضيئة للغير، فهو شمعة تحترق وتتعب من أجل الآخرين، بقضاء حوائجهم وإسعادهم والشفاعة للمحتاج منهم في جميع مراحل حياته، والتي من أبرزها: محطة دراسته في المعهد العلمي، من خلال جهوده في الجمعية الثقافية وأعضائها وروادها وطلابها بأنشطتها المتعددة المتنوعة، وقد صحب هذه المحطة محطة ثانية، حيث كان تأسيس المكتبة العلمية بالرس، ثم كانت دراسته الجامعية بالمدينة محطة ثالثة وما صحبها من المعايشة العلمية والدعوية للطلاب والعمل على سد احتياجاتهم.
وكانت المحطة الرابعة وكالة معاهد الجامعة الإسلامية (المتوسط والثانوي) وما صحبها من أجواء الإحسان والمعايشة الفعلية لمتطلبات طلاب الجامعة، وله محطة خامسة تمثلت بإدارة الشؤون الدينية في قطاع الأمن العام بالمدينة النبوية وما فيها من تنظيم جداول التوعية والمحاضرات والندوات على مدى عشر سنوات تقريباً، كما كانت له محطة سادسة تمثلت بالعناية بأبناء الجاليات الأفريقية بالمدينة، من خلال المدارس الخيرية التي نشأت لاحتواء وتعليم هذه الجاليات، ويجمع بين هذه المحطات العلمية والعملية مبادرات الشفاعة لكل محتاج لها.
وبشيء من التفصيل عن أبرز هذه المراحل والمحطات، أسَّس أبو صالح مع بعض زملائه (مكتبة الرس العلمية) عام 1392هـ، وقد كان العضو البارز في تأسيسها وبرامجها، وشارك في انطلاقتها ومحاضراتها وندواتها وأنشطتها وهو لا يزال طالباً في معهد الرس، وقد قَدَّمت هذه المكتبة كثيراً من الأنشطة الثقافية والمعرفية والدعوية آنذاك، واستوعبت الشباب والشيوخ، ومن مقتضيات هذا النشاط الثقافي أن يتصدره من عُرف بالنشاط والعمل والعقل والحكمة، والنجاح في العلاقات العامة، فكان أبو صالح من أبرز القائمين بهذه الأدوار التي تعكس إحدى محطات حياته المضيئة، فقد أسهم برجاحة عقله وحكمته مع بعض زملائه وأصدقائه في إنجاح المكتبة وعطائها، حينما كان عضواً فاعلاً في فعالياتها، وقد كان يرأس مجلس إدارتها قاضي محكمة الرس الشيخ محمد الصغيِّر -رحمه الله-، ومما شهد به معاصروه انتفاع المجتمع الرسي على مستوى المحاضرات والندوات والفعاليات الثقافية آنذاك.
وفي (محطة الجامعة والمدينة) أصبح أبو صالح كذلك من أعلام الدعوة فيها، وذلك حينما كان طالباً، وفي معاهدها إدارياً ومعلماً ومربياً وداعياً إلى الله، محسناً بمعظم صور الإحسان لطلاب غرباء قدموا إلى هذه البلاد الطاهرة المباركة، واختاروها للنهل من أنهار العلم والمعرفة، وفي الغالب أنهم من ذوي الحاجات بعوائلهم، وذلك بالعمل والشفاعات على تيسير ما تعسَّر عليهم من أمور الحياة في الجامعة وخارجها، متابعاً معاملاتهم وقضاياهم في الدوائر الرسمية، وساعياً وواقفاً على أبواب المحسنين من زملائه وأصدقائه وأقربائه وذويه ليحصل منهم على القليل مع القليل، نيابة عن طلابه في السؤال والمسألة.
وعن هذه المحطة في (المدينة النبوية) التي كانت حافلةً بعطائه الخيري، أضاف أبو أنس محمد الغفيلي ما يوضح عن مناقبه وجهوده فيها كذلك بقوله: «رحل إلى المدينة مواصلاً طريقه في الدعوة لا يمل ولا يكل، وتولى فيها مسؤول التوعية في الأمن العام، فكان له الأثر البين في الإصلاح في هذا القطاع، ناهيك عن طريقه الطويل في خدمة الفقراء والمساكين في المدينة النبوية والبذل في مواساتهم بكل السبل التي يملكها، وشعوره الدائم برحمتهم والإحساس بحالهم.
ولقد كان أبو صالح في إحدى محطات حياته الفاعلة، من أبرز السباقين والمبادرين في تأسيس (مدارس أبناء الجاليات الأفريقية والتشادية) وتعليمهم ودعمهم بشكلٍ خاص بالمدينة النبوية، مع ثُلة من محبي العلم والتعليم، ومحبي الخير ونفع المجتمع بالإحسان، وذلك بمدارس خيرية تُحقق الأمن الاجتماعي والفكري لهذه الجاليات ولمجتمع المدينة، كما هو حال مدارس الجالية البرماوية بمكة المكرمة.
وحول صفاته وأخلاقه وقِيَمه، خاصةً صفة الشفاعات -تلك القيمة المُثلى التي تعكس روح الحب والتسامح والإيثار وعطاء الخير للغير.
كَتَبَ عنه الشيخ علي طه: «أبو صالح رجل فذ في أخلاقه، في تكوينه، في تديُّنه، في شجاعته، في كرمه، في أُخوَّته، وفي مشاعره ومحبته ولطفه وفضله وإحسانه. لا يترك سبيلاً لنفعهم إلا ويبذُله، بالمال وبالشفاعة، وبالوقت وبالاستقبال، وبالضيافة وبالإكرام، وبالإعانة للآخرين في المدينة وخارجها في بلادهم.
وحول صفة الشفاعة الحسنة لديه لكل محتاج، كتب الدكتور عبدالله زين العابدين أحد خريجي الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، ومما قال عنه في كلمته الطويلة: «لم تَدَعْ لأحد نال شرف معرفتك إلا أن يستفيد منك خيراً، سواء كان بإسداء معروف، أو بتوجيه تربوي، أو بنصح شرعي كائناً من كان.. لم تَخَفْ في الله لومة لائم في كل كلمة حق قلتَها في مجلس خاص أو عام، أو عند إغاثة ملهوف، أو نصرة ضعيف، أو شفاعة لمن ليس له حيلة .. عفويتك، وسلامة صدرك، وصدق لهجتك، وفكاهتك كَتَبَت لك القبول لدى الكل».
وكانت وفاة أبي صالح رحمه الله يوم السبت الموافق 8 صفر 1447هـ، بعد معاناة طويلة من المرض على مدى عامين تقريباً، صابراً محتسباً، ودُفن في مقبرة الرس (رقم الصف 91 برقم العمود 8)، وتنادى بعض محبيه إلى إنشاء وقفٍ خيري أو مسجد أو مشروع تنموي خاصٍ به للمحتاجين من طلاب العلم، كما جاءت مبادرةٌ مشكورة من منصة إحسان كذلك باسم (وقف للشيخ محمد بن صالح الزيدي) في دعم المشاريع الخيرية والتنموية الإغاثية، وتم تسجيل هذا بالحملة رقم (CW-1827331).
** **
- باحث في التاريخ ودراسات العمل الخيري والقطاع الثالث