نجلاء العتيبي
في دائرة حكومية ومنذ لحظة دخولك من البوابة تشعُرُ أن لهذا المكان طابعًا مميزًا، ومخرجات راقية، في وجوه الموظفين ملامح هدوء، وفي أدائهم انضباط فطري، كأن النظام جزءٌ من تكوينهم، فالحارس يؤدي عمله بدقة وابتسامة، والزملاء يتبادلون التحية بخفةٍ صادقةٍ، كل شيء يوحي بأن العدالة هنا ممارسة لا شعار، وأن التقدير قاعدة لا استثناء، وراء هذا المشهد قائدٌ آمن بأن المنصب تكليف ومسؤولية لا وسيلة نفوذ، يرى في موقعه فرصة للبناء لا للتسلط، فيقود بعقله وقلبه معًا، قوته في حكمته ووضوحه وإنسانيته في قدرته على الإصغاء، يجعل من موقعه مساحة للثقة المتبادلة، ويمنح كل موظف شعورًا بقيمته وتأثيره؛ فيعمل الجميع معه برغبة لا رهبة.
يدير يومه بهدوء واتزان، يمرُّ بين المكاتب دون استعراضٍ، يسأل باهتمام، ويصحح الخطأ برقيٍّ واحترامٍ، يتعامل مع موظفيه كشركاء في النجاح والبناء، الشجاعة عنده وعي بالواجب، وقدرة على مواجهة الصعب دون تردُّد، يرى في كل إنسان قيمة قابلة للنمو، وفي كل موقف فرصة للتقويم.
لا يُقصي أحدًا، يُدرك أن القوة التي لا تُنصف تُفسد، وأن القيادة التي تخلو من الرحمة تضعف؛ لذلك يجمع بين الصدق في القرار والرحمة في التنفيذ، فيتَّزن العدل، وتستقيم العلاقات تحت توجيهه، يتعلَّم الموظفون أن الجدية احترام للذات، وأن الالتزام خُلُق قبل أن يكون نظامًا، فالانضباط عنده مستمدٌّ من القدوة، والتحفيز قائم على الثقة، فيجعل الموظف يطمح لأن يكون أفضل؛ لأنه يرى أمامه نموذجًا حيًّا لا تعليمات جامدة.
وعده صادق، وقراره مُنصف، وكلمته تبعث في السامع طاقةً من العزم والإخلاص.
لا يرفع صوته، فثقة الموقف تغنيه عن ذلك، يزن الأمور بين الصرامة الهادئة والرحمة الواعية، فيكسب احترام الجميع دون أن يفرضه، وحين يخطئ أحدهم يكون أول من يفتح باب التصحيح؛ فيتعلَّم الموظفون أن الخطأ فرصة للتعلم، وأن الاعتراف به شجاعة لا ضعفًا.
تثمر هذه القيادة بيئة مفعمة بالاطمئنان، يتحول فيها العمل إلى تعاون، والمهام إلى فرص للتقدم.
يشعر الجميع أن المؤسسة بيتهم، وأن نجاحها امتداد لجهودهم. ومع مرور الوقت تنشأ بينهم روابط تتجاوز المصلحة، وتصبح روح الجماعة سلوكًا أصيلًا لا توجيهًا مفروضًا.
ولا يتوقف الأثر عند حدود المكان، فالموظف الذي يعيش في بيئة عمل جيدة يكتسب وعيًا ونضجًا، وينقل قيم العدالة والتوازن إلى بيته ومجتمعه، فيتجذر أثر القيادة في كل جانب من حياته، وهكذا تمتد دوائر البناء من المكاتب إلى البيوت، ومن المؤسَّسات إلى الشوارع، فينشأ مجتمع يستمد توازنه من قِيمه لا من قوانينه فقط.
أعظم إنجازات هذا القائد ليست الأرقام ولا التقارير، بل النفوس التي استشعرت قيمة جهدها وعطائها، والقلوب التي أيقنت أن الكلمة الصادقة قادرة على صنع المستقبل، هذا هو المجد الحقيقي: أن يترك أثره في الناس قبل الملفات، وفي الذاكرة قبل المكاتب، فإذا رحل يومًا، بقي صدى سيرته فيمن عملوا معه، يذكر لا لأنه كان رئيسًا، بل لأنه كان إنسانًا صاغ قيادته بحكمةٍ ونزاهةٍ، وأصلح بالعقل، وألهم بالرحمة، فصار مثالًا للقيادة التي تزرع في الإنسان معاني القوة، وفي الوطن أسباب النهضة.
ضوء: «كل قائد يرى الإنسان قبل المنصب، يكتب في الذاكرة تاريخًا لا يُمحى».