رمضان جريدي العنزي
ذاكرتي لم تَشِخْ بعد، وإن حاول الزمن أن يغسلها، لكنني بين فينة وأخرى أعيدها بألوان عميقة، الحاضر عندي يولد من الماضي، وبين الماضي والحاضر نبضتان فاخرتان، كسمفونية مغايرة، الذاكرة تجيء بطيوف الماضي كما لو كانت حاضرة، تجيء به من رحم الذاكرة العتيقة، الماضي عندي صندوق يُفتح ويُغلق، لا يدار بمفتاح معدني، لكن بناء على نبض القلب، ورغبة الذاكرة، وتنفس الروح، الماضي ليس مجرد أرشيفٍ للأيام، ولا شارع قديم مغطى بأوراق الخريف، ولا مراتع للصبا، ولا ذكريات عتيقة، إنه كائنٌ حي يتنفّس داخلي، وأنا المتيم بالماضي صورة وذكرى ومقالا، الماضي يتسلل إلى روحي شيئًا فشيئًا، كطفل يحبو، حتى غدا عندي نوعًا من التطهّر من صخب الحاضر، وضجيج الحياة، الحاضر عندي ليس إلا ظلاً ممتداً من الأمس، أتكئ عليه كي لا أسقط، وأنا بينهما كوتر مشدود لا يسمح لنفسه أن ينكسر.
دائماً أكتشف أن في داخلي ضوءاً قديماً لا ينطفئ، يشبه وعداً قديماً مخزناً في الروح والذاكرة، الماضي ليس خلفي، بل تحت جلدي، ينمو معي ويتنفس، ويخضع للمواسم، في لحظات كثيرة ينهض الماضي في داخلي كجدار طيني تتسرب منه أصوات وألوان تشبه ريحاً مقبلة، أو غيمة عابرة، كمن يحاول أن يتذكر وجهه الأول وفعله وهمسه، أحاول أن أجمع شتات الضوء في راحتي، ورغم كل شيء ثمة نبض يسري داخلي، نبض لا يشبه كل نبض، ثمة مسافات تعبرني أكثر مما أعبرها، مسافات صامتة لا تنتمي إلى الوقت، بل إلى تلك الفجوة التي تتسع كلما حاولت أن أكون شخصاً واحداً، ثمة أصوات بعيدة، وأضواء تظهر لوهلة ثم تختفي، أبحث عنها، أختبئ في المسافة بين فكرة مرت، وأخرى لم تكتمل، في منطقة الوسط التي لا يسكنها زمن ولا ذاكرة، تبدأ الأشياء الحقيقية بالظهور، لا ماضي يحرسها، ولا حاضر يجرؤ على مسها، فقط يبقى أثر مبهم يشبه رائحة شيء لم يولد بعد، تتجلى أمامي ملامح ووجوه، تحدث في داخلي اهتزازاً غامضاً، كأنها تحاول أن تخبرني بشيء لم أعرفه بعد.
أحياناً أتساءل: هل حقاً أتذكر أم أنني أخترع ذاكرة تتناسب وضعاً مغايراً، أم أن تذكر الماضي مجرد رغبة في تفسير وقع الحاضر وإرهاصاته، بين سؤال وآخر يتسع داخلي كأنني غرفة تفتح أبوابها لأول مرة، أعرف يقيناً أن الطريق الذي يمضي إلى الداخل أطول بكثير من الطريق الذي يمضي إلى الخارج، وكلما تعمقت اكتشفت أن ما كنت أهرب منه كان ينتظرني بصبر عميق، كأنه يعرف أن الزمن مجرد ستارة رقيقة تكشف ما يتعمق في دون أن ألتفت إليه، وها أنا الآن، في النقطة التي تتوقف فيها اللغة عن أداء مهمتها، أدرك شيئاً خجولاً لا يريد أن يظهر دفعة واحدة، بل على دفعات خجولة.