د. عبدالحليم موسى
في عالم باتت فيه الصورة لا تُلتقط بل تُصنع، وأصبح الفيديو لا يوثّق الواقع، بل يُفبرك ويغير الحقائق، حينها يغدو الفرق بين الحقيقة والوهم معركة ثقافية وأخلاقية واجتماعية تتجاوز حدود التقنية، فالذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد أداة للإنجاز أو الإبداع؛ بل أصبح قوة قادرة على إعادة تشكيل علاقتنا الاجتماعية بما نراه، وبما نصدّقه، وبما نخشاه. لقد انتقلت الصورة من كونها دليلا للإثبات إلى كونها احتمالا للتكذيب؛ ومن كونها مرجعا واقعيا إلى كونها بوابة لتخيلات مُحكمة يصعب على العين المجردة تفكيكها وتصديقها.
حينما يشهد جيفري هينتون عراب الذكاء الاصطناعي، قائلا «التقنيات الحديثة لتوليد الصور والفيديو أصبحت متقنة لدرجة أن كثيرا من الناس لا يستطيعون، بعينهم فقط، التمييز بين الأصلي والمزيّف، وهذا يشكل خطرا على الإعلام والحقيقة»؛ وهذا الحكم ليس تشاؤمياً؛ بل توصيف دقيق لعصر أصبحت فيه الدقة التقنية خصما للحقيقة، فالتقنيات التوليدية اليوم، سواء عبر نماذج الصور الفائقة أو الفيديوهات المحاكية للوجوه والأصوات، تستطيع صناعة مشاهد مطابقة للمنطق البصري البشري، بحيث تبدو أقرب إلى اليقين منها إلى الخيال.
فعقولنا تعتمد على ما وصفه علماء النفس بـالوثوق الإدراكي، وهو اطمئنانٌ شبه فطري تجاه ما نراه؛ فالصورة تُقنع من يشاهدها قبل أن يفهم حقيقتها، والفيديو يُصدّق قبل أن يُحلّل محتواه، لكن حين تتفوّق الآلة على قدراتنا البصرية، تصبح الثقة بالحواس خياراً محفوفاً بالخطر. حينما ننظر إلى رأي عالم النفس الأميركي دانيال كانيمان والذي يُعتبر أب الاقتصاد السلوكي، وحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، إذ يقول» إنّ دماغ الإنسان مسكون بالرغبة في التصديق»، أي أنه يبحث عن السلاسة والانسياب المعرفي قبل الدقة، وهنا تكمن معضلة التوليد الآلي الذي يجعل الكذب أكثر سلاسة من الحقيقة.
في البيئة الرقمية الذكية، يغدو التفاعل مع المحتوى تجربة عاطفية أكثر منها معرفية، فالذكاء الاصطناعي لا يصنع فقط شكلاً، بل يصنع أثراً نفسياً قوياً، يُعيد تدوير العاطفة والدهشة، ليغدو التمييز بين الحقيقي والمزيّف عملاً مرهقاً يتطلب وعياً عقلياً لا يتوفر للعديد من الناس خاصة كبار السن مما يجعلهم يصدقون كل ما يصنعه الذكاء الاصطناعي من صور وفيديوهات قد تقود الى تقطيع العلاقات الأخوية والأسرية.
في عام 2019 انتشرت على منصات التواصل صور مزيفة للممثلة الأمريكية سكارليت جوهانسون والتي كانت أعلى ممثلة أجراً في العالم في عامي 2018 و2019، وقد اختارتها مجلة «تايم» في عام 2021 كأحد الأشخاص الـ100 الأكثر تأثيراً في العالم؛ فقد جرى توليد صور مزيفة عبر الذكاء الاصطناعي لهذه الممثلة وإقحام وجهها في محتوى لم تشارك فيه، وقد أثارت الصور موجة غضب واسعة بعدما تبيّن أن منشئيها استخدموا برامج مفتوحة المصدر لإنتاج صور شديدة الإقناع يصعب تمييزها عن الحقيقة، وبالرغم من اتخاذها الإجراءات القانونية، قالت جوهانسون كلمة للتاريخ بأنّ إيقاف هذه التكنولوجيا بالكامل شبه مستحيل. أصبحت الحادثة مثالاً عالمياً على قدرة الذكاء الاصطناعي على تشويه السمعة دون وجود مادة حقيقية؛ ومنذ ذلك الوقت، تصنَّف قضيتها كأبرز تحذير مبكر من مخاطر التزييف العميق على الخصوصية.
فحينما تنتشر صورة مفبركة تُظهر أحد أفراد الأسرة في موقف غير أخلاقي أو حين تُصنع رسالة صوتية مُحاكية لصوت الأب أو الأم، ستكون النتيجة تدمير علاقة امتدت سنوات. ووفق تقديرات باحثي علم النفس الاجتماعي حينما يتلقى الفرد معلومة بصرية مقنعة مرة واحدة فقط ليتولد لديه شك طويل الأمد، حتى لو تمّ دحض المعلومة لاحقاً، فالضرر العاطفي أسرع أثراً من التصحيح العقلي. هكذا تصبح الأسرة، التي هي الملاذ الأول للثقة، ساحة محتملة للالتباس والانقسام، فقد ظهرت بالفعل حالات عالمية استُخدمت فيها تقنيات التزييف للإضرار بسمعة أشخاص، وتدمير علاقات زوجية، وممارسة الابتزاز. فمستقبل الثقة الإنسانية لن يُبنى على الصورة ذاتها، بل على القدرة على تفسير الصورة داخل منظومة من المعايير الاجتماعية والأخلاقية لكل مجتمع.
إن مواجهة زيف الصورة لا تبدأ من الخوارزميات، بل من القلب والعقل معا، لكنها لا تكتمل دون وعي حقيقي بمخاطر الذكاء الاصطناعي وحدوده، فنحن بحاجة إلى تربية عين نقدية تجعل أبناءنا يتوقفون لحظة قبل التصديق، ويتنفسون ويفكرون قبل المشاركة كما نحتاج إلى ترميم الثقة داخل الأسرة عبر الحوار المفتوح، لا الاتهام السريع، ولا الخوف الصامت، مدعومين بثقافة رقمية تُدرك كيف تعمل الخوارزميات وكيف يمكن أن تُضللنا. فالعلم يؤكد أن الأمان النفسي هو خط الدفاع الأول ضد التضليل، وأن المجتمعات الأكثر وعيًا بمخاطر التقنية هي الأقل قابلية للانكسار.
إنّ مستقبل الذكاء الاصطناعي يعتمد بصورة كبيرة على وضوح المعايير الأخلاقية، وأن المجتمع بحاجة إلى توازن بين الابتكار والضبط؛ هذا التوازن هو ما يحدد ما إذا كانت الصورة الذكية ستكون أداة للتحسين أو وسيلة للسيطرة أو للتدمير المجتمعي.