صالح الشادي
في مثل هذا الشهر من ديسمبر عام 2000، وبينما كانت انتفاضة الأقصى تلفظ أنفاسها الأولى تحت وطأة القمع، اجتمع قادة العالم الإسلامي في العاصمة القطرية الدوحة في قمة طارئة. على ذلك المنبر، وقف الملك فهد بن عبد العزيز -رحمه الله- ليبلور الموقف السعودي التاريخي نحو القضية الفلسطينية، مُطلقًا شرارة مبادرة سياسية ستتطور لاحقًا وتصبح أحد أهم العروض العربية للسلام في التاريخ الحديث. كان ديسمبر ذلك العام شاهدا على لحظة حاسمة، جسدت استمرار الدور السعودي الراسخ كحصن للقدس وقضية فلسطين، وهو دور لم يضعف بل تعمق وتجدد عبر العقود، ليكتمل مسيره اليوم في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان -حفظهما الله-.
لقد أسس الملك فهد -طيب الله ثراه- لإستراتيجية سعودية متكاملة تجاه القضية الفلسطينية، تقوم على دعامتين رئيستين: أولاهما، الدعم المالي والسياسي والمادي الثابت للشعب الفلسطيني ومؤسساته، كأمرٍ ثابت لا يتزعزع بتغير الأحوال. وثانيتهما، السعي الدؤوب عبر الدبلوماسية النشطة لتحويل هذا الدعم إلى واقع ملموس على الأرض، من خلال طرح حلول سياسية عملية، وكانت مبادرة السلام العربية التي أعلنها لاحقًا في 2002 هي التتويج المنطقي لهذه الرؤية، حيث قدمت للعالم صيغة شاملة وعادلة للسلام، تقوم على مبدأ الأرض مقابل السلام، وتضمن حق الفلسطينيين في دولة وعاصمة في القدس الشرقية. لم تكن المبادرة مجرد بيان عابر، بل كانت –ولا تزال– السياسة الرسمية الثابتة للمملكة، وهي المرجعية التي تحكم جميع تحركاتها الدبلوماسية اللاحقة.
وإذا كان الملك فهد قد وضع الحجر الأساس، فإن العهود التي تلته واصلت البناء على نفس المنهج، بتصميم أقوى ووسائل أوسع، فجاء عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ليجسد استمرارية هذا المسار الوطني مع تعزيزه في ظل تحديات إقليمية بالغة التعقيد. فالملك سلمان، الذي عُرف تاريخيًا بمواقفه الثابتة تجاه فلسطين منذ أن كان أميرًا للرياض، جعل القضية في صدارة أولويات السياسة الخارجية السعودية، وقد تجلى ذلك عمليًا عبر:
- الدعم السياسي المتواصل: عبر التأكيد المتكرر في كل المحافل الدولية على أن قضية فلسطين هي القضية المركزية للأمة، ورفض أي قرارات أحادية الجانب تمس بالقدس أو تضيع حقوق الشعب الفلسطيني. وكان للموقف السعودي الحاسم والواضح دور محوري في رفض خطط ضم الأراضي الفلسطينية.
- الدعم الإنساني والمالي غير المشروط: حيث ظلت المملكة من أكبر الداعمين للشعب الفلسطيني عبر قنوات متعددة، منها الصندوق السعودي للتنمية ودعم ميزانية السلطة الفلسطينية والمساعدات الإنسانية العاجلة، خاصة في قطاع غزة.
- الحفاظ على الوحدة الفلسطينية: حيث أولت الدبلوماسية السعودية، بتوجيهات من الملك سلمان، اهتمامًا خاصًا للحوار بين الفصائل الفلسطينية، ساعية إلى رأب الصدع وتوحيد الكلمة كشرط أساسي لنجاح أي مفاوضات مستقبلية.
أما صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، ولي العهد، فقد مثل -في إطار هذه الثوابت الراسخة- ديناميكية جديدة في طرح القضية فلسطينيا ودوليا، فبينما يؤكد سموه في كل مناسبة على «التزام المملكة الثابت بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية»، فإنه يقدم رؤية عملية تركز على:
- إعادة القضية إلى الواجهة الدولية: عبر جعلها محورًا في لقاءات سموه مع القادة العالميين، وشرح الأبعاد الإنسانية والسياسية للصراع بلغة العصر.
- الربط بين الاستقرار الإقليمي وحل القضية الفلسطينية: حيث تطرح الرؤية السعودية، التي يقودها ولي العهد، أن أي مسار للتطبيع أو للسلام الشامل في المنطقة يجب أن يكون مرتبطًا بحل عادل وشامل للقضية الفلسطينية، وذلك حماية للمشروع الوطني الفلسطيني من أن يُستخدَم كعملة للمقايضة.
- دعم فرص التنمية الفلسطينية: بربط الدعم السياسي بخلق أفق اقتصادي للشباب الفلسطيني، كجزء من بناء مقومات الدولة المستقبلية.
لقد حافظت المملكة، من عهد الملك فهد إلى عهد الملك سلمان، على خط مستقيم ثابت في الدفاع عن القدس وفلسطين. فهي لم تتراجع عن مبادرة السلام العربية كمدخل استراتيجي، ولم تتوقف عن الدعم المادي والسياسي، بل زادت من وتيرة جهودها الدبلوماسية في عهد الملك سلمان لمواجهة التحديات الجديدة. إن هذا الثبات ليس مجرد سياسة دولة عابرة، بل هو تجسيد لموقع المملكة الديني والتاريخي كحامية للمقدسات الإسلامية وأولى القبلتين، وهو التزام قيادي تجذر في ضمير القادة من آل سعود، منذ عهد المؤسس الملك عبد العزيز -طيب الله ثراه- وحتى اليوم. إن مسيرة ديسمبر 2000 مستمرة، تحمل نفس المبادئ، لكن بأدوات عصرية وإرادة قوية، تؤكد أن صوت المملكة في نصرة المقدسات وقضايا الأمة العادلة سيبقى صامدًا شامخًا، لا تتزعزع شعرة عنه مهما تغيرت الظروف والأزمان.