د. أنس صلاحات
منذ أكثر من سبعة عقود والسعودية تثبت أنها الرقم الأصعب في المعادلة الفلسطينية. في كل منعطف تاريخي، من نكبة 1948 مروراً بنكسة 1967 وصولاً إلى أوسلو وما تلاه، ظلّت الرياض تعتبر أن فلسطين ليست مجرد قضية سياسية، بل قضية هوية وأمة وعدالة تاريخية.
هذا الثبات لم يكن موقفاً رمزياً أو عاطفياً، بل كان خياراً استراتيجياً متجذراً في عقيدة المملكة وقيمها إلى يومنا هذا، تُرجم عملياً بمواقف رسمية واضحة، وبمبادرات دبلوماسية تركت أثراً عميقاً في المشهد العربي والدولي وصوتاً لا يلين في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية.
وعلى مدى العقود الماضية، قدّمت السعودية دعماً متواصلاً، مالياً وسياسياً ودبلوماسياً، ولم تتغير البوصلة السعودية رغم تغير الأنظمة الدولية والتحالفات الإقليمية.
كان الموقف واضحاً: لا اعتراف بإسرائيل دون انسحاب كامل، ولا تطبيع دون حل عادل يضمن الحقوق الفلسطينية. مبادرة السلام العربية التي طرحتها السعودية عام 2002 في قمة بيروت مثّلت أبرز تجلٍ لهذا الموقف؛ مبادرة واضحة وشجاعة، سلام شامل وعادل مقابل دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية على حدود الرابع من يونيو 1967، وحق عودة اللاجئين. إذ ربطت بشكل قاطع بين السلام الشامل وإنهاء الاحتلال، لتصبح لاحقاً المرجعية الرسمية لأي نقاش دولي حول مستقبل الصراع. وفي السنوات الأخيرة، ومع انحياز الإدارة الأمريكية السافر لإسرائيل، برزت الدبلوماسية السعودية كلاعب محوري أعاد الاعتبار للقضية الفلسطينية في المحافل الدولية، حيث تجاوز الموقف السعودي بيانات الإدانة، لتقود المملكة حراكاً عالمياً لوقف العدوان وحماية القضية الفلسطينية، مُسخرة نفوذها السياسي والاقتصادي لهذا الهدف. ففي نوفمبر 2023، احتضنت الرياض قمة عربية إسلامية جمعت 57 دولة، وأنتجت لجنة وزارية بقيادة السعودية لحشد الدعم الدولي ومنع التهجير وضمان المساعدات ودفع حل الدولتين.
وفي سبتمبر 2024، أطلقت السعودية مع النرويج والاتحاد الأوروبي «التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين»، تبعه مؤتمر دولي بنيويورك في يوليو 2025 بالشراكة مع فرنسا، ما حوّل الحل من شعار إلى مسار عملي.
هذا الحراك السعودي أفضى إلى اعتراف دول كبرى مثل بريطانيا وكندا وأستراليا والبرتغال بدولة فلسطين في سبتمبر 2025، وتبعتها فرنسا ودول أوروبية أخرى، ليصل عدد الدول المعترفة بالدولة الفلسطينية إلى أكثر من 155 دولة، في مؤشر على اتساع العزلة الدولية لإسرائيل. كما أن هذا الحراك السعودي في العواصم الكبرى، من واشنطن إلى بروكسل، أعاد تسليط الضوء على الحق الفلسطيني بعد أن حاولت إسرائيل ومعها بعض القوى طمسه أو تجاوزه بل إلى شطبه نهائياً، فكانت السعودية «صوت الضمير» في زمن تراجعت فيه العديد من الأصوات.
والقيادة السعودية تدرك جيداً أن السلام الحقيقي والدائم في المنطقة لا يمكن أن يتحقق بالتطبيع الشكلي أو بتجاهل القضية الفلسطينية. السلام الحقيقي يُبنى على العدالة للفلسطينيين، وهذا ما تناضل من أجله. لذلك، بادرت المملكة لتشكيل «التحالف الدولي الطارئ للاستدامة المالية للسلطة الفلسطينية». تحالف يضمن استمرار عمل السلطة كمكوّن أساسي للدولة، بدعم مؤسساتها، ويحمي وجودها. ولم تكتف السعودية بالدعوة، بل كانت الأولى في تقديم الدعم الفعلي.
لقد أثبتت الأحداث الأخيرة أن الرياض ليست مجرد داعم أو مناصر للقضية الفلسطينية، بل هي شريك فاعل يسعى إلى تثبيت الحق الفلسطيني في صدارة الاهتمامات الإقليمية، وتوظيف علاقاتها الدولية للحيلولة دون تهميشه.
اليوم، وفي ظل المشهد الفلسطيني المأزوم وانقسام الساحة الداخلية، تبدو الرسالة أوضح من أي وقت مضى. لا يمكن للسياسة الفلسطينية أن تراهن على وعود دولية عابرة، ولا على مبادرات مشروطة لا تحمل ضمانات.
الرهان الحقيقي يجب أن يكون على الموقف السعودي الثابت، الذي أثبت عبر التاريخ أنه الأشد صدقاً والأكثر استمرارية. هذا الموقف هو رأس المال السياسي الذي يجب على الفلسطينيين الاستثمار فيه، لا الاكتفاء بالترحيب به أمام سعي إسرائيل لتهجير الشعب الفلسطيني وشطب قضيته.
إن الرسالة التي يجب أن تصل واضحة: على القيادات الفلسطينية أن تعمل بجدية لتعزيز الشراكة مع الرياض، لا أن تهدر هذا الرصيد الثمين في خلافات داخلية أو رهانات قصيرة المدى.
وفي الوقت نفسه، على صانعي القرار في السعودية أن يدركوا أن استمرارهم في دعم فلسطين لا يحفظ فقط عدالة قضية شعب، بل يرسخ أيضاً لمكانة المملكة كمرجعية سياسية واقتصادية وروحية لا ينافسها أحد في المنطقة.