في ظل معايشتي لمرحلة الاختبارات الحالية، مرّ عليّ تعريف الفاعل في أحد المناهج الدراسية، وهو كما ورد في الكتاب المدرسيّ «اسم مرفوع يأتي بعد الفعل المبني للمعلوم، يدلّ على من فعل الفعل»، وقفتُ وقفة تأمل عند هذا التعريف قادتني إلى تذكّر لقاءٍ علمي للدكتور: فضل السامرائي، الذي أشار فيه إلى إشكالية هذا التعريف، مؤكدًا أن الفاعل ليس هو من فعل الفعل، وأن هذا التعريف بصيغته هذه لا وجود له في أمهات كتب النحو العربي، فلقد قال ابن جني في الخصائص: «وأن الفاعل عندهم إنما هو كل اسم ذكرته بعد الفعل وأسندت ونسبت ذلك الفعل إلى ذلك الاسم»، وقال ابن الحاجب في الكافية: «فمنه الفاعل. وهو ما أسند إليه الفعل أو شبهه وقدم»، والفاعل عند ابن مالك هو: «اسم أو ما في تأويله أسند إليه فعل أو ما في تأويله مقدّم أصليّ المحلّ والصيغة».
حينها أدركت أن هذا التعريف التعليمي للفاعل وغيره من التعريفات في النحو العربي لا تعكس الواقع اللغوي الذي نستخدمه يوميًا، ففي نحو قولنا: (مات محمد) الفاعل النحوي في هذه الجملة هو: (محمد)، لكنه في المعنى لم يقم بالفعل بنفسه، بل وقع عليه فعل الموت بإرادة الله عزّ وجلّ، ومن هنا انطلق السؤال التالي: هل تعبّر التعريفات النحوية في مناهجنا عن المعنى الحقيقي للمفاهيم والأدوات أم أنها بقيت في قوالبها الجامدة منذ قرون؟ فمنذ وضع الخليل وسيبويه أسس النحو العربي، سادت نزعة تقعيدية صارمة جعلت من النحو علمًا منضبطًا بالقواعد أكثر من كونه علمًا مهتمًا بالمعاني، يقوم على الفهم والتذوق اللغوي والدلالي، ومع مرور الزمن تحول النسق النحوي إلى منظومة مغلقة تكرر نفسها في المناهج دون مراجعة نقدية لمفاهيمها وطرائق عرضها، حتى غدت التعريفات النحوية جامدة لا تعكس حركة اللغة الحية في الواقع.
ويردد الطلاب ما كتب في الكتب من مثل: (الفاعل هو من فعل الفعل)، ومثله تعريف اسم (نائب الفاعل) إذ يُعرف من اسمه بأنه من ناب عن الفاعل، ففي قولنا: (كُسر الزجاجُ) بناء على القاعدة النحوية ناب (الزجاج) عن الفاعل (محمد)، وهذا لا يعبّر عن حقيقة البنية اللغوية للجملة، بل إن الفعل تغيّر منظوره، وحذف الفاعل للتركيز على النتيجة لا عليه. إن هذا المثال والمثال السابق كافيان للكشف عن الحاجة الماسّة إلى إعادة صياغة التعريفات النحوية بما يعكس التحول البنيوي والدلالي في الجملة العربية.
فالمتأمل في الأبواب النحوية يجدها منذ نشأتها على يد الخليل وسيبويه تقوم على نسقٍ تعريفي صارم، ينقله المتأخر عن المتقدم، ويضيف إليه شيئًا يسيرًا لا يخرجه من دائرة الصرامة، وبناءً على ذلك أصبح الطلاب يتلقون هذا النمط القديم المتسق مع منطق التراث، الذي لم يعد يخدمهم في ظل وجود بيئة لغوية رقمية، والتعامل مع اللغة العربية واللغة الإنجليزية ولغة التواصل اليومية، وقد أدّى هذا الثبات إلى انفصالٍ تدريجي بين النحو بوصفه علمًا قاعديًا، واللغة بوصفها لغة حية تتفاعل مع المجتمع والثقافة والتقنية؛ لذا من الأفضل للمادة النحوية في عصرنا الحاضر أن تنظم حول محاور وظيفية، مثل: البنية، والدلالة، والتركيب، والعلاقات السياقية، والاتساق النصي، وأن تستبدل الأمثلة الجامدة إلى نصوص واقعية، من القرآن الكريم، والمقالات الصحفية، والمحادثات اليومية، ونماذج من وسائل التواصل الاجتماعي.
إن تدريس النحو العربي يجب أن يتجاوز التلقين إلى التفاعل، وأن يتخلص من الجمود إلى الابتكار، فمعلم اللغة العربية ليس ناقلًا للقواعد، بل هو المبدع القادر على إبداع موقف لغوي يربط الطالب باللغة بوصفها أداة تفكير ومعنى، من خلال ربط القواعد النحوية بالنصوص الأصيلة ذات السياق الدلالي الواضح الدلالة، لا الجمل المفصولة عن سياقها، وتدريب الطلاب على تحليل الخطابات والحوارات لا الجمل فقط مجتثة من سياقها. والاستفادة من التقنية والذكاء الاصطناعي في جعل الدرس النحوي تجربة حيّة تفاعلية ينجذب إليها المتعلم. فالنحو ينبغي أن يتحول إلى متعة عقلية، كمتعة حل الألغاز، وتفكيك الشفرات، ومتعة الرسم عند المهندس والفنان، ومتعة التنقيب عند عالم الآثار، ومتعة الاكتشافات والاختراعات عند العلماء.
ولعل من أسباب نفور الجيل المعاصر من النحو واللغة العربية الفصحى هو ما يمكن تسميته بـ(التقعّر اللغوي)، ويقصد به الميل إلى استعمال ألفاظ غريبة أو تراكيب متكلّفة لا تمتّ بصلة للغة الحياة المعاصرة، ليس هذا فقط، بل إن نفورهم من الفصحى أدّى إلى عد أي تصحيح لغوي قائم على القواعد النحوية ينظر إليه أيضًا بأنه تقعّر لغوي.
لا يخفى عليكم أن النحو لا يهدف إلى التقعّر اللغوي، بل إتقان التعبير عن خلجات النفس بكل سلاسة ووضوح، فالقرآن الكريم وهو أبلغ نص لغوي أنزله الله عزّ وجلّ بلسان عربي مبين، يمتاز بفصاحة العبارة، وبلاغة المعنى، ودقة الدلالة، وصفاء البيان، أنزل بلغة جمعت بين البلاغة والوضوح، واليسر والإيجاز أعجز العقول بمعانيه، وملأ القلوب بنور بيانه، من غير تكلف في اللفظ ولا غموض في المقصد.
وكثير ما يُتّهم المتخصص في اللغة العربية -ولا سيما المدقق اللغوي- بالتقعّر، مع أنه لا يقوم إلا بتطبيق القواعد التي أرساها النحو العربي وأجمع عليها علماء اللغة. لكن هذا الاتهام المزعوم يستحق أن يُعاد النظر فيه، هل هو حقًا تقعيد لغوي متعمد، أم نتيجة لتلقي تقليدي تشبّع بأساليب القدماء، كالجاحظ وأبي حيان التوحيدي وغيرهما، الذين كانت لغتهم تميل إلى التقعيد، والفخامة والعمق والاطناب؟ وهل تعد المرونة في الاستعمال اللغوي تهاونا في التدقيق؟ إن المرونة لا تعني ترك الضبط، بل مراعاة السياق، فإذا كتب أحدهم خطابًا واستبدل حرف جر بآخر دون أن يُخلّ بالمعنى، فالأولى تقبّل ذلك مادام القصد واضحًا، فاللغة أداة تواصل لا تقعيد.
إن السلاسة اللغوية ليست تقليلًا من العلم باللغة العربية، بل علامة على فصاحة حقيقية؛ لأن الفصاحة جوهرها الوضوح وسلامة المعنى. ومن هنا أوجّه دعوة للمدققين والكتاّب بأنه لا بأس من الاختلاف اليسير في حرف ما، كحروف الجر، أو ترتيب الكلمات في الجمل، ما دام المعنى واضحًا والسياق سليمًا، إلا أن هناك حدودًا لا يمكن تجاوزها، وهي عندما يمس الخطأ المعنى، ويخل به، ويفسد السياق، ويحدث لبسًا أو خللا فيه.
والمحزن أننا أصبحنا اليوم أمام جيل لا يعرف الكتابة وقلما يستطيع التعبير عن مكنونات نفسه، بل ويعدها أمرًا صعبا لا يؤديها إلا المتخصص باللغة، فالضعف في مهارة الكتابة جعل من سؤال: هل تستطيع كتابة تقرير؟ سؤالا جادا لا استغراب فيه في المقابلات الوظيفية، إذ صارت الكتابة مهارة نادرة، لا لصعوبتها، بل لأن الصلة باللغة العربية باتت ضعيفة في التعليم والحياة اليومية.
ورغم مظاهر الجمود اللغوي، فإن الأمل يتجدد مع بروز مؤشرات إيجابية تعكس وعيًا متزايدًا بأهمية تطوير تعليم اللغة العربية، في ظل التطور العلمي والتعليمي الذي يعد من أولويات مستهدفات رؤية المملكة العربية السعودية 2030، فقد ازداد الوعي بأهمية تطوير مناهج اللغة العربية، وانتشرت الدورات التدريبية في مجالات التدقيق والتحرير وكتابة المحتوى العربي والرقمي، المدفوعة منها وغير المدفوعة، إلى جانب إيمان المؤسسات التعليمية بضرورة تطوير طرائق التعليم والتطبيقات التعليمية وتجديدها بما يستوعب تطلعات الجيل الجديد، ويواكب روح العصر وتحولاته. إن هذا الحراك التطويري يمكن أن يشكل نواةً لمشروع نحويّ عربيّ معاصر، يُعيد للنحو روحه الحية، ويجعله علمًا قائمًا لا على القواعد الشكلية فحسب، بل على الفهم الدلالي والمعنى الوظيفي في الاستعمال اللغوي.
إن هذا المقال وما ذكره من وجوب إعادة النظر في التعريفات النحوية، وأبوابه لا يُعد انتقاصًا من التراث النحوي، بل وفاء له بروح جديدة، فالهدف منه هو تسليط الضوء على ضرورة إعادة صياغة التعريفات والأبواب النحوية في مناهج اللغة العربية بما يتوافق مع تطورات الفكر اللغوي الحديث ومتطلبات الواقع الاتصالي المعاصر. فالكثير من المفاهيم النحوية الموروثة لم تعد تعبّر بدقة عن طبيعة اللغة الحيّة، مما جعل النحو مادة جامدة في نظر المتعلمين.
فالنحو العربي لم يؤسس لضبط أواخر الكلمات فحسب، بل لفهم معاني الكلام وسياقاته، ومدى إيصاله للمعاني والأفكار.
ورغم ما أشرنا إليه من جوانب القصور في بعض التعريفات النحوية، فإن الإنصاف العلمي يقتضي أن نوازن بين النقد والإقرار بما لهذه التعريفات من دور في حفظ الدلالة وضبط المعنى، فليست جميع التعريفات بحاجة إلى إعادة نظر في صياغتها، إذ إن بعضها قد تفضي إعادة صياغتها إلى التباس وتداخل مع المفاهيم الأخرى.
من مثل ذلك الإشكالية التي طرحها بعض الباحثين ودعوتهم إلى استبدال مصطلح (التراث) إلى مصطلح (الأصول والثوابت) بحجة أن مفهوم التراث يوحي بقطيعة بين الماضي والحاضر، ولكن لو أننا استبدلنا مفهوم التراث بمفهوم الثوابت والأصول لاختلط ذلك بالأصول النحوية والعقدية والفقهية.
وإن ما ينبغي التنبه إليه هو أن مقصد هذا المقال ليس رفض التراث النحوي وما جاء به من تعريفات، بل هو دعوة إلى تجديد واع يستقي أصالته من التراث، ويبقي على جوهر الدلالة، ويصون المفهوم الواضح دون أن يحدث لبسا أو تضاربا بين المصطلحات والمفاهيم.
ومن هنا تتضح الحاجة إلى مشروع لغوي إصلاحي متوازن، لا يُقصي التراث ولا يغفل أهميته، بل يُعيد قراءته قراءة نقدية متفاعلة مع الواقع الاتصالي المعاصر، فالتجديد لا يعني ترك القديم، والمحافظة عليه لا تعني رفض التغيير، وإنما القصد هو أن نبني النحو العربي على وعي دلالي حديث، يعتز بأصوله ويؤمن بالتجديد والمرونة.
ومع زيادة الوعي بأهمية اللغة في صناعة الفكر والثقافة، ولأنها أداة التواصل اليومية والدراسة، يتسع الأفق للإصلاح اللغوي ليشمل: تحديث المناهج، وتطوير طرائق التدريس، وتفعيل التقنيات الحديثة في تعليم النحو وتحليل لغة الخطاب، وبهذا نُحيي الدرس النحوي ونبعد عنه الجمود، ونتجاوز به حدود الإعراب إلى عمق الدلالة.
وإذا أردنا أن نعيد للغة العربية مكانتها في نفوس أبنائها، فعلينا أن نجعلها لغة حياة، وتفكير، وتعبير، لا مادة جامدة في الكتب وأوراق الاختبارات.
فمن حق النحو أن يُعاد إحياؤه ليخوض غمار الحياة، وليمكّن اللغة من أن تظهر قدرتها على مواءمة التطور والتجديد، وأن يواكب حيوية الواقع اللغوي ويستعيد علاقته الأصيلة بالكلمة والمعنى والسياق، ويكون ذا فاعلية في تشكيل الكفاية اللغوية المعاصرة للمتعلمين.
** **
مريم بنت صالح الشويمان - باحثة دكتوراه، وخبيرة في توسيم البيانات