أ.د.عثمان بن صالح العامر
أفضل الناس عند الله كما جاء جواباً من رسول اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ لمن سأله (أيُّ الناسِ أفضلُ قال كلُّ مخمومِ القلبِ، صدوقِ اللسانِ قالوا صدوقُ اللسانِ نعرفُه فما مخمومُ القلبِ قال هو التقيُّ النقيُّ لا إثمَ فيه ولا بغيَ ولا غِلَّ ولا حسدَ) رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
أفضل الخلق في ميزان الشرع العبد التقي، الذي يهتدي بما ورد في الكتاب الذي لا ريب فيه (القرآن الكريم)، وأول سمة وأخص صفة لمن يصدق عليه هذا النعت (إيمانه بالغيب) والإيمان هنا (عمل قلبي) يتجاوز (محدودية العقل البشري) الذي لا يستطيع وحده متى استقل عن الوحي الرباني أن يسبر أغوار هذا العالم الخفي أو يعرف شيئاً عنه خاصة المطلق منه، فهو مما اختص الله به وحده، خلاف الغيب النسبي الذي قد يكشفه الله لمن شاء من عباده.
ومن المطلق الذي حجبه الرب سبحانه وتعالى عنا تماماً أمر (النهايات)، فمع إيماننا التام بأن {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}، وأن لكل منا ساعة محتومة ستحل به يوماً ما، إلا أننا لا نعلم متى هي {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا}، ولا في أي أرض ستكون {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}، وفي الحديث (إذا أرادَ اللهُ قبْضَ عبدٍ بأرضٍ، جَعلَ لهُ فيها حاجةً) أخرجه الشهاب القضاعي في (المسند)، (1391) وصححه الألباني في صحيح الجامع. ولا مع من سنرحل عن هذه الدار، ولا كيف سنودع الدنيا؟ (تعددت الأسباب والموت واحد)، هذا اللغز الضخم الذي حاول جمع من الفلاسفة القدماء، وعدد من المفكرين الغربيين، وثلة من العقلانيين المعاصرين اقتحامه والخوض فيه متسلحين بأدواتهم البحثية، وموظفين أساليبهم العلمية، ومستندين على مقدماتهم الفلسفية، فخابوا وخسروا، وعاد المنصف منهم معترفاً بمحدودية العقل البشري وضعفه أمام عوالم مخفية، وأقدار محدده، يجريها الله متى شاء، وكيف شاء، وعلى من شاء أفراداً وأمماً، وهذا هو الحق المبين في عقيدتنا السلفية الإسلامية الصحيحة، فالإنسان ليس مسؤولاً عن حل هذا اللغز الأبدي، ولا هو في دائرة التكليف الرباني، وإنما كل منا مطالب قبل أن تحل به ساعة الرحيل بسبعة أمور، هي بإيجاز:
- أن يموت على التوحيد والملة الحقة، دليل ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} آل عمران (102).
- أن يموت وهو يحسن الظن بالله، فالإنسان يعيش في هذه الحياة بين خوف ورجاء، ومتى قربت ساعته غلب الرجاء على الخوف، إحسان ظن منه بالله سبحانه وتعالى، فعن جابر بن عبد الله الأنصاري رَضِيَ اللَّهُ عنهما، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، قبل موتِهِ بثلاثَةِ أيَّامٍ، يقول: (لا يَموتَنَّ أحَدُكم إلَّا وهو يُحْسِنُ الظَّنَّ باللهِ عزَّ وجلَّ) رواه مسلم.
- أن يكون آخر كلامه في هذه الدنيا كلمة التوحيد، إذ يقول عليه الصلاة والسلام: (من كانَ آخرُ كلامِهِ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخلَ الجنَّةَ) رواه أبو داود، وأحمد.
- إن يتخلَّص من حقوق العباد قبل أن تدنو ساعة الفراق.
- أن يكون خلفه وصية واضحة بيِّنة، ينصح فيها ذريته من بعده، ويبيِّن لهم في ثناياها كل ما يتعلَّق بذمته للآخرين، (ما له وما عليه).
- أن يترك خلفه إحدى هذه الثلاث أو جميعها ما استطاع إلى ذلك سبيلا (... صدقة جارية، أو علم ينفع به، أو ولد صالح يدعو له) رواه مسلم.
- والحظيظ منا من يكون يوم رحيله من دنينا أسعد أيامه، وليلة قبره أجمل ليالي عمره، من يذكر بخير في يوم فراقه هذه الدار وقدومه على دار البرزخ، من يترحَّم عليه الكل، ويذكر محاسنه الجميع، ويتوجَّد لفراقه من عرفه ومن لا يعرفه، يشعر بأنه فقد قريباً له وهو ربما لم يقابله وجهاً لوجه، ولا يعرفه إلا من خلال ذكره الحسن، ومواقفه الطيِّبة، وصدق لسانه، وقلبه المخموم، وربما مشاهده المؤنسة، ومقاطعه المبهجة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، دليل هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (مَرُّوا بجَنَازَةٍ، فأثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: وجَبَتْ، ثُمَّ مَرُّوا بأُخْرَى فأثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ: وجَبَتْ فَقَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنْه: ما وجَبَتْ؟ قَالَ: هذا أثْنَيْتُمْ عليه خَيْرًا، فَوَجَبَتْ له الجَنَّةُ، وهذا أثْنَيْتُمْ عليه شَرًّا، فَوَجَبَتْ له النَّارُ، أنتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ في الأرْضِ) رواه البخاري.
- هنيئاً لمن إذا ذكر اسمه يوماً ما بعد فراقه الدنيا، قيل (رحمه الله) ومتى وجد ولده أو حتى حفيده أو قريبه وصديقه في مجلس ما قيل له (الله يرحم والدك، صديقك، قريبك، ...، كان نعم الرجل، الله يجعله في الفردوس الأعلى من الجنة)، اللَّهم اجعلنا منهم يا رب، وأطل أعمارنا على الطاعة، ولا تفاجأنا بمكروه، وارحم الله موتانا وموت المسلمين، وإلى لقاء، والسلام.