خالد محمد الدوس
لم تعد المدرسة مجرد جدران أربعة تُحكى فيها حكايات الماضي، ولا مقاعد ثابتة تُحفظ فيها معادلات جامدة. لقد انتهى زمن كان فيه الطالب وعاءً يُملأ، والمعلم ساحرًا وحيدًا يمتلك عصا المعرفة. اليوم، تقف البشرية على أعتاب ثورة صناعية رابعة وهندسة جينية وذكاء اصطناعي يتحدى حدود الخيال، فكيف لنا أن نواكب الثورة العلمية والانفجار الرقمي والاقتصاد المعرفي..؟! الإجابة تكمن في كلمة واحدة هي شعار العصر: الابتكار..!
الابتكار في التعليم ليس رفاهية تُزين به التقارير، ولا مجرد شراء أجهزة لوحية، أو تركيب سبورات ذكية. إنه فلسفة شاملة، تحول المدرسة من مصنع لإنتاج المتعلمين المتشابهين، إلى حاضنةٍ تنتج العلماء، والمفكرين، والفنانين، والمبدعين. إنه عملية إعادة تعريف للتعلّم نفسه، من «تلقين» إلى «اكتشاف»، ومن «حفظ» إلى «تطبيق»، ومن «امتحان» إلى «تقييم مستمر للحلول».
ولذلك لم يعد مقبولاً أن يكون المنهج كتابًا مغلقًا يُغطى من الغلاف إلى الغلاف.. بينما المنهج المبتكر هو إطار مرن، قائم على «المشاريع» و»التحديات الحقيقية» وخصوصاً أن الابتكار يعيد تصميم التعليم ليركز على مهارات القرن الـ21 مثل التفكير النقدي، والتعاون والعمل الجماعي، والتواصل الفعَّال، والإبداع الفكري، والمرونة والتكيُّف.
دور المعلم يتحول من «ناقل للمعرفة» إلى «ميسِّر» و»مرشد» و»شريك في التعلُّم». تقوم فلسفة التدريس المبتكر على التعلُّم النشط، حيث يكون الطالب هو محور العملية. تعتمد هذه الطرق على:
- التعلُّم القائم على المشاريع لربط المعرفة بالواقع.
- التعلُّم المقلوب، حيث يطلع الطالب على الدرس في البيت، ويأتي إلى المدرسة للتطبيق والمناقشة.
- التعلُّم القائم على التلعيب لتحفيز الطالب وتحويل التحديات إلى مغامرات.. وإبداعات.
والأكيد أنه لا يمكن لعقل مبدع أن ينمو في مكان مقيد..! الفصول المبتكرة هي مساحات مرنة، يمكن إعادة ترتيبها بسهولة للعمل الفردي أو الجماعي. هي فصول مليئة بالموارد: طابعات ثلاثية الأبعاد، وأدوات إلكترونية، ومساحات للعروض المسرحية، وورش للروبوتات، وحدائق للتعلُّم. المدرسة بأكملها تتحول إلى «بيئة محفزة»، كل زاوية فيها تدعو إلى التساؤل والاستكشاف.. والتساؤل -لا شك- باب من أبواب المعرفة كما يقول زعيم العباقرة في زمانه العالم الفيزيائي الشهير (إنشتاين)..!
«الامتحان التقليدي» الذي يقيس الحفظ المؤقت هو أكبر (قاتل) للإبداع.. لكن «التقييم المبتكر» هو تقييم تكويني مستمر، يركِّز على عملية التعلُّم نفسها وليس فقط على الناتج النهائي. يتم من خلال
ملفات الإنجاز تجميع لأفضل أعمال الطالب ومشاريعه. وأيضاً التقييم الذاتي وتقييم الأقران.. لتعلُّم النقد البناء ومراجعة الذات.
إن رحلة الابتكار ليست مفروشة بالورود، فهناك تحديات جسام نجدها في بعض المدارس ومنها:
قصور البنية التحتية.. وأيضاً المناهج المركزية الثقيلة.. التي لا تترك مساحة كافية للمبادرة.
إلى جانب ضغوط الامتحانات التقليدية: التي تفرض على المدرسة العودة إلى الأساليب القديمة.
الحاجة إلى تدريب المعلمين فهم حجر الزاوية، وتدريبهم يجب أن يكون مستمرًا وعميقًا حتى يكون الابتكار كمنهج وثقافة حاضراً بقوة في داخل دهاليز التعليم.
وبالطبع الابتكار في مدارسنا لم يعد خيارًا، بل هو ضرورة وجودية. إنه استثمار في العقل البشري، وهو السلاح الوحيد الذي يمكِّننا من المنافسة في عالم متقلِّب لا يرحم.. لا يمكن أن تترك هذه المهمة الجسيمة للمؤسسات التعليمية فقط، بل هي جهد جماعي تشاركي، ومسؤولية مشتركة تقع على عاتق المعلِّم الشغوف، والأهل الواعين، والمسؤولين في التعليم، ووسائل الإعلام والطبقة المثقفة ودورهم التنويري والتحفيزي بما يسهم في إيجاد التربة الخصبة والبيئة المناسبة للنمو الابتكاري.
لنحلم معًا بمدارس تكون فيها حصص الرياضيات رحلات استكشافية لمنطق الكون، وحصص الأداء مسرحًا لصقل المشاعر والإحساس، وحصص العلوم الطبيعية مختبرات لاكتشاف أسرار الحياة. لنحلم بمدارس لا يُسأل فيها الطالب «ماذا حفظت؟»، بل «ما المشكلة التي استطعت حلَّها اليوم؟». حينها فقط، سننتج (جيلًا) لا يخشى المستقبل، بل يصنعه بيديه وعقله وروحه المبتكرة.
وقفة:
رؤية مملكتنا الغالية (2030): تضع «الابتكار» في قلب إستراتيجية التحول الوطني، حيث تشكِّل محركاً رئيسياً لتنويع الاقتصاد، وبناء مجتمع حيوي، ووطن طموح.