أحياناً يأتي فيلم وثائقي لا ليحكي قصة فنان، بل ليحكي شيئاً فينا نحن، شيئاً نخفيه خلف التفاصيل، أو نؤجله خلف انشغالنا. في أسبوع واحد شاهدت حكايتين متوازيتين لفنانين قدّما للعالم سنوات من الإبداع والدهشة، حكايتين تبرزان الوجه الآخر للموهبة: ذاك الوجه الذي لا يظهر على الشاشة، بل يظهر في لحظات الانكسار والصعود، في اختياراتٍ لم يكن أحد يراها، وفي الخطوات التي ترسم مصيراً بالكامل. هناك، خلف أضواء هوليوود، يطل الإنسان، هشاً، تائهاً، أو ثابتاً كجبل. وهنا يبدأ الدرس الحقيقي.
كان (شارلي شين) ممثلاً لا يُخطئه الضوء. كل شيء مهيّأ له: موهبة فطرية، قدرة مذهلة على التشخيص، نجاحات متتالية، جماهيرية طاغية. لكن هذا كله لم يمنع انكسار الروح حين غُرّرت بالملذات. تعاطى المخدرات، غرق في الكحول، عاش عربدة تُطفئ أي بصيص وعي، حتى صار صدى اسمه أعلى من صوته الداخلي. دخل المصحات مرة بعد مرة، وخرج ليعود في دائرةٍ تبدو بلا نهاية. تدهور حتى لامس القاع، فقد ملامحه القديمة، وانهارت علاقاته، وارتجّ قلب أهله وأصدقائه خوفاً عليه. ومع ذلك، كانت معجزته أنه عاد، بعد انتكاسات كثيرة، بعد ليالٍ طويلة لم يصدق فيها نفسه كيف نجا بينما مات كثيرون ممن شاركوه ذلك العبث. عاد لأن أحداً ما تمسّك به حين أفلت هو من يديه. العودة كانت أثمن من كل الجوائز، لأن النجاة أحياناً تكون أعظم من النجاح.
وفي الجهة الأخرى، يقف (إيدي ميرفي) نجمٌ وُلد في قلب التحديات، أسود البشرة في زمن لم يكن يسمح بسهولة بصعود مثله. لكنه تعامل مع موهبته كما لو كانت عهداً، مسؤولية، طريقاً مفتوحاً لمن يأتي بعده. لم يدخن، لم يشرب، لم يستسلم لإغراءات كان يمكن أن تبتلعه كما ابتلعت غيره. حافظ على صحته، على نفسيته، على تركيزه. وكان يدرك أن نجاحه ليس لنفسه وحدها، بل لأجيال كاملة من أبناء جلدته. واستوعب مبكراً أن الإبداع لا يكتمل إلا بعافية الجسد وصفاء الروح. وحين تشاهده اليوم، وهو الأكبر عمراً بين الاثنين، تراه بنصف سنّه. ليس لأن السنين رحيمة، بل لأن الانضباط نعمة، ولأن العافية لا تُمنح بسهولة، بل تُحمى كل يوم.
الغريب أن الاثنين عباقرة. كلاهما صنع أفلاماً شكلت ذاكرة الجمهور. كلاهما وصل إلى القمة. لكن الأول كان يركض خلف ذاته، والثاني كان يسير نحو هدفٍ أكبر من ذاته. الأول أحرق رصيده دون أن يشعر، أما الآخر حوّل الموهبة إلى بوابةٍ لصنع أثر طويل لا ينتهي بانتهاء آخر مشهد. هذه المفارقة تكشف لنا أمراً مهما: النجاح ليس ذروة واحدة، بل مسار. وأن من ينجح مرة ليس بالضرورة قادراً على الحفاظ على نجاحه، وأن صيانة النفس أصعب من بلوغ الشهرة. كثيرون يصلون لكن القليل فقط من يستمرون.
كل إنسان في داخله موهبة ما، قد لا تكون تمثيلاً، وقد لا يعرفها الآخرون، لكنها موجودة. والموهبة تشبه شمعة، قد تُنير الطريق، وقد تحرق اليد إن أسيء استخدامها. (شارلي شين) اختار الطريق الأسهل، طريق اللذة السريعة التي تُخدر الوعي، فدفع ثمناً باهظاً من روحه قبل صورته. إيدي ميرفي اختار الطريق الأصعب: الانضباط. التركيز. أن يقهر نفسه قبل أن يقهر الظروف. فكان طريقه أطول، وأعمق، وأكثر إشراقاً. والسؤال الذي يهمنا ليس: أيّهما كان أذكى؟ بل: أيّهما كان أصدق مع نفسه؟
لأن الصدق مع الذات هو ما يجعل الإنسان يزدهر أو ينهار.
عندما أغلقت الوثائقيين، شعرت أن كل واحد منا يحمل داخله شيئاً من هاتين الحكايتين. وتردد في القلب سؤال لا يهدأ: ماذا نفعل نحن بموهبتنا الصغيرة أو الكبيرة؟
ليس شرطاً أن نكون فنانين، كل إنسان يملك شيئاً يميّزه، شيئاً يمكن أن يصنع له طريقاً أو يضيّعه. ولأن الحياة عادلة بطريقة خفية، فهي تمنحك الموهبة مرة واحدة، لكنها تختبرك فيها كل يوم.
هل تصونها أم تفرّط فيها؟
هل تجعلها رسالة أم تتركها مهدرة في زوايا العبث؟
بين (شارلي شين) و(إيدي ميرفي) يتلخص درس عميق:
ليس المهم أن تصل. المهم كيف تحافظ على نفسك حين تصل.
فالوصول بلا وعي سقوط مؤجل.
والوصول مع الوعي بداية رحلةٍ تزداد جمالاً كلما استمرت.
** **
- باسم سلامة القليطي