ليلى أمين السيف
في هذا العالم، ثمة فئة لا يتحدث عنها أحد كما يجب. فئة تعيش بين لغتين، بين ثقافتين، بين صورتين عن نفسها.
فئة تنهض كل صباح لتواجه مجتمعًا ليس مجتمعها، وقوانين ليست قوانينها، ونظرات لا ترحم.
المغتربون يستيقظون كل يوم ليواجهوا جوًّا لا يشبه جوّهم، وطقسًا لا يرحم أجسادهم، ودينًا تُراقَب ممارسته، وعاداتٍ تُطلب منهم بلا دليل، وقوانين تُحفظ قبل أن تُفهم.
الطقس أول امتحانات الاغتراب
البرد الذي لا يعرفونه، الظلام الطويل، الثلج الذي يبتلع الأرصفة، النهار القصير الذي يضغط على النفس.
أجسادهم تحتاج عامًا لتتأقلم، وقلوبهم تحتاج أعوامًا لتتغلب.
الدين، حين يُمارس الإنسان عقيدته بحذر
صلاة تُضبط أوقاتها على أوقات الراحة أثناء الدراسة أو العمل. ففي الشتاء تكبر معاناة المغترب؛ يخرج لعمله أو دراسته قبل الفجر في ظلام وبرد قاسٍ، ولا يعود إلا مع العشاء وقد انتهى النهار كله.
هي معركة يومية بين واجبه الديني، واحتياجات جسده، وضغط الحياة الذي لا ينتظر أحدًا.
يعيش يومه مضغوطًا بين عتمتين، ويكافح ليلحق بعمله وواجباته وأسرته في وقت لا يكفي أحدًا.
وفي الصيف يزداد العبء حين تتقارب أوقات الصلوات بشكل يرهق المغترب؛ المغرب والعشاء بفارق ساعتين وأقل يليهم الفجر حتى يكاد يوقظك قبل أن تنام ومع ذلك، يحاول الإنسان أن يحافظ على صلاته، ثم ينهض مبكرًا لعمله أو دراسته وكأنه لم يغمض عينيه.
تحدّي الهوية الدينية
حجاب تُفسَّر رموزه قبل أن يُسلَّم بوجوده. عيد لا يُعترف به في التقويم الرسمي، وحين يصدح صوت المؤذّن من هاتفك في مكان عام، ترتفع حولك نظرات استغراب وتعجّب، تُحدّق فيك كأنك تتحدّى أعراف المكان بمجرد هذا الصوت.
العادات.. إعادة بناء الذات من الصفر
طريقة السلام تختلف. نبرة الصوت تُفسَّر. الضحك له قواعد، والصمت له قواعد. الولائم، الزيارات، التربية، حدود المزاح. كل شيء يحتاج «تعليمًا جديدًا».
اللغة.. التحدي الأكثر قسوة للكبار وغير المتعلمين
اللغة. البوابة الأصعب في حياة المغترب؛ امتحان يومي لا ينجو منه لا الكبير ولا غير المتعلّم. اللغة ليست عثرة ضعف، بل عبء عبور إلى عالم جديد. هم لا يتلعثمون لأنهم ضعفاء؛ بل لأنهم يتعلمون لغة في عمر لم يُخلق للتعلّم. لغة يجب أن يستخدموها لدى الطبيب، والمدرسة، والبنك، والعمل، والسوبر ماركت، وحتى مع الجار.
الكبير يتعلم القواعد ببطء وغير المتعلم يحفظ الجمل سماعًا، يرتّبها بصعوبة، ويتلقى التصحيح كأنه طفل كبير. ومع هذا يواصل لأن التوقف يعني السقوط.
العمل.. حيث يبدأ المغترب دائمًا من الدرجة الأخيرة
قد يحمل المغترب أرفع الشهادات، خبرات، ودورات، وسنوات من الإنجاز. لكن اللغة في بلد الاغتراب تتحوّل إلى جدار صخري يجبره على البدء من الصفر.
لا يرحمه زملاؤه، ولا يتساهل المجتمع معه؛ فالتلعثم يُفسَّر نقصًا، واللكنة تُقرأ ضعفًا، والجملة غير المتقنة تصبح دليلًا على عدم الكفاءة لو كان يحمل خبرة وعلما ومكانة تفوقهم جميعًا وهكذا يبدأ من الدرجة الأخيرة مهما كان مستواه الحقيقي؛ يتعلّم نظامًا جديدًا، وطرائق مختلفة في العمل والتواصل، ويضبط طريقة كلام جديدة، ويتحمّل نظرات الاستغراب على كل كلمة ويُحاسَب على خطأ لغوي لا يُلتفت إليه عند المتحدث الأصلي ومع ذلك يثبت نفسه مرّة بعد مرّة، ويحفر مكانه في الصخر حتى يصبح وجوده حقيقة لا يستطيع أحد تجاهلها.
تحدّي القوانين المجتمعية
في الاغتراب، القوانين دقيقة وحادّة، والهوامش ضيقة، وأي سوء فهم قد يتحوّل إلى قضية. نظرات بعض المعلّمات في الروضة مريبة أحيانًا؛ تراقب تصرفاتك تفسّرها بمعايير مجتمعها، لا بمعاييرك.
شكوى من جار لا يعرف طباعك، أو بلاغ من معلمة لم تفهم ثقافتك كفيل بأن يهدم سنوات من استقرارك، وأنت بريء براءة الذئب من دم ابن يعقوب. فنبرة الصوت التي نعتبرها عادية في ثقافتنا تُفسَّر هنا كصراخ، والتعليق العابر يُقرأ تهديدًا، والحركة الطبيعية قد تُسجَّل مخالفة.
نحن شعوب دماؤنا حارّة، طباعنا صريحة، أصواتنا عالية بالسليقة لكن في هذا العالم الجديد، الصوت العالي يُكتب في السجل، والسوء في الفهم لا يغتفر بسهولة، والمغترب دائمًا تحت مجهرٍ لا يرى منه إلا ما يَسقط من السياق.
المستوصف.. اللغة والبيروقراطية والهيبة الزائدة
تشرح ألمك بلغة ليست لغتك.تخاف أن تختار كلمة خاطئة فتغيّر التشخيص. تبحث عن موعد، عن ترجمة، عن ملف طبي يُفهم بلا لبس.كل زيارة للمستوصف هي مباراة مكثفة بين لغة لم تتقنها، وموظف لا يتساهل، وخوف داخلي لا يهدأ.
الحياة اليومية.. سلسلة أبواب لا تُفتح بسهولة
المغترب يعيد كتابة نفسه كل يوم. في السوق، في المدرسة، عند الشرطة، في البنوك، في دوائر الدولة. في أنظمة مختلفة عنه لم يعهدها ولم يمارسها. يتعلم كيف يشرح ألف شيء كان بديهيًا في بلده، وكيف يثبت أهليته في كل خطوة ومع ذلك يبقى واقفًا.
المغترب لا يعيش في رفاه؛ يعيش في اختبار دائم للبقاء النفسي والاجتماعي واللغوي ومع ذلك يعمل، يدرس، يربّي، يبني، يضيف للمجتمع الجديد لونًا جديدًا وفكرة جديدة ومرونة لا يملكها أبناء اللغة الأم.
المغترب ليس أقل؛ المغترب أقوى فرغم التحديات من حوله والعيون التي ترصد زلاته بدأ من الصفر مرتين وأثبت نفسه في عالم لم يُبْنَ له وأتْقَن لغة لم تُخلق لأمثاله وتكيّف مع طقس لم يُربَّى عليه وثبّت دينه دون أن يعتذر عنه ورغم القيود من حوله عاش بعادات جديدة دون أن يفقد جذوره هذا هو المغترب الحقيقي.
إنسان لم ينكسر، رغم أن كل الظروف كانت تحاول كسره.
هؤلاء هم المغتربون. الذين قرروا طوعًا أو قسرًا أن يبدأوا من جديد، وأن يدفعوا أثمانًا مضاعفة ليُسمح لهم فقط بالوقوف في الصف.
الاغتراب ليس «فرصة» كما يظن البعض. الاغتراب مواجهة يومية، اختبار صعب، ملعبٌ لا يلعب فيه الجميع بالقواعد نفسها.