هدى بنت فهد المعجل
في مرحلةٍ ما من النضج الداخلي، لا يعود الصمت علامة نقص، بل يتحوَّل إلى لغة مكتملة لا تحتاج إلى شرح. نصمت لا لأن الكلمات تخوننا، بل لأننا ندرك فجأة أن بعضها يسيء إلى المعنى بدل أن يخدمه. في هذا المستوى من الوعي، يصبح الكلام احتمالًا، والصمت اختيارًا، ويغدو الامتناع عن الرد فعلًا فكريًا لا هروبًا عاطفيًا.
نعيش في عالمٍ يفسِّر الصمت على أنه ارتباك، أو انسحاب، أو عجز عن المواجهة. كأن القيمة الإنسانية تُقاس بعدد الكلمات، لا بوزنها. لكن التجربة النفسية تخبرنا بعكس ذلك؛ فكلما اتّسعت الرؤية، ضاق الكلام. من يرى أكثر، لا يحتاج إلى أن يقول كل شيء، لأن بعض الفهم لا يُشارك، بل يُعاش.
الصمت القهري مؤلم، لأنه يُفرض على الإنسان حين تُسلب منه مساحة التعبير. أما الصمت المختار، فهو دليل تصالح داخلي، حالة من الاكتفاء، وطمأنينة لا تحتاج إلى تصفيق. هو أن تمتلك القدرة على الرد، ثم تختار ألّا تفعل، ليس ضعفًا، بل احترامًا لذاتك ولحقيقة شعورك. هنا يصبح الصمت فعل قوة هادئة، لا ضجيج فيها ولا ادّعاء.
في الضجيج الاجتماعي، يُدفع الإنسان إلى الإفراط في الكلام خوفًا من أن يُساء فهمه، أو أن يُتّهم بالبرود، أو أن يُمحى حضوره. غير أن النضج النفسي يعلِّمنا أن بعض المساحات لا تُملأ بالصوت، بل بالوعي. فليس كل صمت فراغًا، كما أن ليس كل كلام حضورًا. أحيانًا يكون الصمت امتلاءً حدّ التخمة، بينما الكلام محاولة فاشلة للتخفيف.
الصمت أيضًا مرآة، ولهذا يخيف الآخرين. من يصمت يترك للآخر فرصة مواجهة ذاته، دون تشويش أو تبرير. ولهذا يربك الصامت من اعتادوا الضجيج، لأن الصمت لا يمنحهم ما يردّون عليه، ولا يقدّم لهم حدودًا واضحة. هو مساحة مفتوحة للتأويل، وهذا ما يجعل البعض يفسّره على هواه، لا على حقيقته.
في الأدب والفلسفة، لم يكن الصمت يومًا غيابًا، بل دلالة. الفراغ بين الجمل، والمساحة البيضاء حول النص، غالبًا ما تقول أكثر مما تقوله الكلمات ذاتها. كذلك في الحياة، بعض العلاقات تنضج حين يقلّ الكلام، لأن الفهم يصبح أعمق من الشرح، والحضور أصدق من الوصف.
لسنا مطالبين بأن نبرّر صمتنا دائمًا، ولا بأن نحوله إلى خطاب دفاعي. أحيانًا، يكون الصمت اعترافًا ضمنيًا بأننا تجاوزنا مرحلة الجدل، وأننا اخترنا السلام الداخلي بدل الانتصار اللفظي. فليست كل المعارك جديرة بالصوت، ولا كل الأسئلة تستحق إجابة.
بالتالي الصمت ليس انسحابًا من الحياة، بل طريقة أرقى للإقامة فيها. هو فنّ اختيار اللحظة التي نتكلم فيها، واللحظة التي نترك فيها المعنى يمرّ دون أن نحبسه في الكلمات. بعض الفهم، ببساطة، أصدق حين يُترك صامتًا.