عبدالوهاب الفايز
الآن، في بلادنا، حين يتجدد الاهتمام بالبيئة، وتعود برامجها وإنجازاتها إلى الواجهة.. نشعر وكأننا نستعيد جزءاً عزيزاً علينا افتقدنا متعة حضوره وتألقه في حياتنا.
هذا الشعور أصبح يتجدد مع دخول أيام الشتاء، فحين تهبط درجات الحرارة وتغسل الأمطار الصحاري القفار، تستعيد الناس علاقتها الأولى بالطبيعة، ألم يقل ابن خلدون: البقاع تؤثر في الطباع. إننا نكتشف من جديد معنى التوازن والتقارب بين الإنسان والمكان. إنها الأرض التي تحتفظ بقصص الحب والحياة.
حينئذ وفي هذه اللحظات، لا يكون الحديث عن البيئة ترفًا موسميًا، بل هو حديث أحاسيسنا ومشاعرنا جمعيًا التي تقول لنا: العودة إلى الطبيعة هي عودة إلى أصل الحياة، إلى الإيقاع الذي اختل طويلًا.
والأجمل أن الإنسان السعودي هو الذي ينتصر للطبيعة، سواء كان المواطن المسؤول الذي يرى دوره يتجاوز واجبات الوظيفة التقليدية، أي يتعامل مع البيئة كـ (رسالة) إنسانية ووطنية، أو المواطن الذي يُعظم دوره تجاه البيئة كل يوم، مستعيداً تلك العلاقة الحميمة لأجدادنا مع الطبيعة.
هذا المزاج العام الإيجابي - الذي نراه يتجدد مع كل شتاء - يتقاطع اليوم مع تحولات أعمق تشهدها المملكة في علاقتها بالبر وبالبحر، حيث لم تعد البيئة مجرد ملف يتنقل في مواسم التوعية التقليدية فاقدة الأثر والتأثير، بل أصبح (سياسة دولة) لها تشريعات، ومؤسسات، والتزامات دولية قابلة للقياس. (إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن).
وملف الدولة البيئي بدا يضع منجزاته في الإطار القانوني والاقتصادي العالمي. في الثاني من ديسمبر 2025 شهدنا إعلان الأمانة العامة لـ(اتفاقية رامسار) إدراج (محمية جزر فرسان) رسميًا كأول موقع سعودي في قائمة الأراضي الرطبة ذات الأهمية الدولية، ليصبح ضمن هذه القائمة العالمية التي تضم مواقع تخضع لأعلى معايير الحماية البيئية.
هذا الإعلان لم يكن مجرد إضافة رقم في قائمة دولية، بل رسالة سياسية وبيئية واضحة في وقت تتزايد فيه عالميًا الاهتمامات بالبيئة.
المملكة اختارت أن تنتقل في سياساتها البيئية إلى عمل وطني متسارع، مع التزام بمتطلبات المجتمع الدولي الذي يُخضع الممارسات البيئية للتقييم والمساءلة.
فالآن أمام 172 دولة طرفًا في اتفاقية رامسار، ستكون جزر فرسان نموذج للالتزام المُنفذ والمُعاش.
إدراج جزر فرسان لم يأت من فراغ، بل بعد تقييمات علمية صارمة استمرت لأكثر من عامين، خضعت خلالها المحمية لمراجعات لجان رامسار الدولية. وقد استوفت المحمية ثلاثة من المعايير التسعة المعتمدة عالميًا، من بينها: أولاً، تمثيلها لنظام بيئي بحري نادر في شبه الجزيرة العربية يضم غابات الشورى الساحلية والأعشاب البحرية. ثانيا دعمها لأكثر من 1 % من التجمعات العالمية لبعض أنواع الطيور المائية المهاجرة على مسار شرق إفريقيا-غرب آسيا. وثالثا، توفيرها موائل حيوية لأنواع مهددة عالميًا.
الأهم من ذلك أن هذا التسجيل يلزم المملكة قانونيًا بإعداد خطط إدارة محدثة، وتنفيذ برامج رصد دوري بمشاركة دولية، ومنع أي نشاط قد يهدد القيم البيئية للموقع.
ونقول مهم لأنه يجعل السعودي، حكومة وشعبا، مسؤولة عن تنفيذ المتطلبات الدولية، وهذا عنصر ضغط إيجابي، وسيكون في صالح جهود إدارة منظومة الحياة الفطرية، حيث سيدفع إلى التطوير وإطلاق البرامج الاقتصادية والاجتماعية التي تُعظم استفادة المجتمعات المحلية من المحميات.
أيضا وضمن منجزات ملف البيئة، جاء قرار مجلس الوزراء بالموافقة على إدراج محميتي «الثقوب الزرقاء» و»رأس حاطبة» ضمن الشبكة الوطنية للمحميات، ليؤكد أن التحول البيئي في المملكة لا يقتصر على مواقع رمزية، بل يمتد لبناء شبكة متكاملة على طول البحر الأحمر.
هذا القرار يعكس التوجهات الوطنيّة المعلنة في استراتيجية منظومة البيئة لنقل السياسة البيئية من مفهوم «الموقع الواحد» إلى منظومة حماية شاملة، تربط بين البحر، والمجتمع المحلي، والاقتصاد، وجودة الحياة.
محمية رأس حاطبة سوف تقدم فرصة لتحويل حماية الطبيعة إلى أداة للتنمية المحلية الذكية.
فإدراج المحمية يساعد المجتمعات الساحلية على إعادة تنظيم العلاقة مع الموارد البحرية بما يضمن استدامتها.
هناك أمر مهم آخر وهو: الجمعيات الخيرية والتعاونية سوف نختبر دورها في تمكين المجتمعات القريبة حتى تستفيد مباشرة من أمور مثل: توليد فرص عمل مستدامة في الحراسة البيئية، وإدارة المحميات، والإرشاد السياحي، ودعم الأمن الغذائي.
فهذه فرصة للقطاع غير الربحي لإطلاق برامج جديدة مدعومة من بنك التنمية الاجتماعي، او من المؤسسات المانحة، أو الأوقاف لتنمية وحماية الموائل الطبيعية التي تقوم عليها أنشطة الصيد المستدام.
مع الحفاظ على التراث الثقافي المرتبط بالبحر الأحمر، من تقاليد الصيد إلى أنماط العيش الساحلي. وكذلك توفير منتجات سياحية لاستثمار المساحات الطبيعية المفتوحة للأنشطة البيئية والترفيه.
طبقاً للتجارب الدولية، تشير تقارير منظمة التعاون الإقليمي لحماية بيئة البحر الأحمر وخليج عدن PERSGA إلى أن إشراك المجتمعات المحلية في إدارة المحميات يسهم في تقليل الفقر الساحلي وتعزيز التنمية الشاملة.
ووفق مستهدفات الاقتصاد الأزرق ضمن رؤية 2030، يُتوقع أن تسهم هذه المحميات في خلق آلاف الوظائف المباشرة وغير المباشرة بحلول نهاية العقد.
إدراج محميتي «الثقوب الزرقاء» و»رأس حاطبة» يعزز توجه المملكة نحو إعادة تعريف علاقتها بالبحر الأحمر، ليس كمورد مستنزف، بل كمنظومة بيئية واقتصادية متوازنة.
السياحة البيئية، الصيد المنظم، والاستزراع السمكي المستدام، كلها قطاعات تجد في المحميات إطارًا يحميها من الانهيار طويل الأمد.
وهنا يتضح التحول الجوهري في التجربة السعودية: البيئة لم تعد عائقًا أمام التنمية، بل شرط لاستمرارها.
من جزر فرسان المسجلة دوليًا، إلى رأس حاطبة والثقوب الزرقاء المعتمدة وطنيًا، تتشكل اليوم في المملكة منظومة متكاملة للحياة الفطرية، ضمن هدف استراتيجي لرفع نسبة المناطق المحمية إلى أكثر من 30 % من مساحة البلاد بحلول 2030، وإنشاء شبكة محميات تتجاوز 600 ألف كيلومتر مربع برًا وبحرًا.
حين نخرج بعد المطر إلى البر أو البحر، ونجد في الطبيعة صفاءها ونستعيد رائحة الأرض، فإننا لا نعيش لحظات جمال عابرة، بل أمامنا ثمار سياسات عامة بدأت تعيد للطبيعة مكانتها شريكًا في التنمية، لا ضحية لها.
وفي عالم تتزايد فيه الشكوك حول فائدة حماية الطبيعة، تصبح المصداقية في حماية البيئية عملة نادرة.
والمقياس ليس في الحديث الذي لا ينقطع عن البيئة، بل هو في: من يلتزم أكثر، ويحاسَب أكثر، ويضع قراراته تحت مجهر المجتمع الدولي.
تجربة السعودية اليوم، من رامسار إلى قرارات مجلس الوزراء لحماية وتنمية منظومة البيئة، تقول بوضوح إن بيئة بلادنا لم تعد ملفًا هامشيًا، بل جزء من السيادة، وشروط التنمية المستدامة، وجودة الحياة.