د. محمد بن أحمد غروي
في زمن يعيش فيه العالم أزمة كبيرة تتعلق بالهوية والتعايش، تبرز إندونيسيا بوصفها واحدة من أكثر الدول قدرة على إدارة التنوع السكاني والديني والثقافي. الدولة التي يقطن فيها 280 مليون نسمة، ضمت مئات الأعراق واللغات واللهجات تحت سقف ست أديان رسمية، بنت نموذجًا مستقرًا يقوم على الانسجام الوطني واحترام الاختلاف.
ومن بلد ربع المليار مسلم، يبرز أكبر مسجد في شرق آسيا، كمعلَم بارز يحدد هوية مجتمع اعتنق الإسلام منذ قرون. مسجد الاستقلال الذي يعد رائعة إسلامية وتحفة معمارية فريدة يَفِد إليها الزوار من كل حدب وصوب. تم بناء المسجد الوطني في جاكرتا لإحياء ذكرى الاستقلال الإندونيسي، واسم «استقلال» كلمةٌ عربيةٌ للاستقلال. وافتتح للجمهور في فبراير عام 1978 ميلادية. للمكان هيبته، فمشاعر العزة والانتماء تغمرك وأنت داخل هذا المسجد العريق ذي الطابع المعماري الفريد، تقع عيناك على الجمال الفني وذاك الجمال الروحي الذي تراه في مناجاة العباد لربهم.
مسجد الاستقلال الذي بني في عهد سوكارنو، أول رئيس إندونيسي بعد الاستقلال، والذي أصر على أن يُبنى المسجد بالقرب من ساحة قصر «مرديكا» وهو قصر الحكم. بني المسجد الوطني بالقرب من كاتدرائية جاكرتا بتصميم ذي طراز تراثي. ولقصة البناء رسالة في التناغم الديني والتسامح بين المعتقدات، كما يُعوّل لها في القيم الوطنية الإندونيسية والمبادئ الخمسة التي تشكل الأساس الفلسفي للأمة الإندونيسية. حسابات معمارية دقيقة رافقت تشييد أحد أكبر مساجد العالم ضخامة وسط جاكرتا. يبلغ قطر القبة الكبرى للصرح 45 مترًا، مقابل 8 أمتار لقطر القبة الصغرى. أما الصومعة فطولها يرتبط رمزياً بتاريخ استقلال إندونيسيا الذي أتى في اليوم السابع عشر من أغسطس الموافق يوم الجمعة التاسع من رمضان. كما يضم المسجد خمسة طوابق في توافق مع أركان الإسلام الخمسة، وبه اثنتا عشرة من دعامات الأساس حكمتها في يوم ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم والمتجول في المسجد يرى براعة التصميم الهندسي الإسلامي وفن العمارة الإسلامية. في تلك الجمعة التي صليتها في المسجد التاريخي، اعتلى منبره الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، معالي الشيخ الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى، الذي أكد في خطبته التاريخية على أهمية التجربة الإندونيسية في إدارة التنوع وعلى الدور الذي تلعبه في تعزيز التعايش داخل العالم الإسلامي. مستذكرًا النموذج الإندونيسي باعتباره «دليلًا عمليًا» على أن التعدد لا يُضعف الأمم، بل يعزِّز قوتها إذا استند إلى قيم العدالة والرحمة والتعاون. وقد شدّد في خطبته على أن إندونيسيا استطاعت أن تصنع حالة نادرة من الوئام الوطني، تقوم على احترام الاختلاف والاعتزاز بالهوية الإسلامية الوسطية. إن ما يجعل الخطاب الذي قدَّمه أمين رابطة العالم الإسلامي مهمًا، ليس فقط إشادته بالتجربة الإندونيسية، بل وضعها في إطار عالمي. فأمام تصاعد خطاب الكراهية والتطرف حول العالم، تصبح إندونيسيا نموذجًا يمكن للعالم الإسلامي أن يتعلَّم منه. لم يكن الحل للوئام والانسجام يومًا في الانغلاق، بل في صياغة مشروع وطني واسع يحترم الاختلاف ويعطي لكل مكوّن حقه في الحضور والمشاركة. فنجاح قصة التعايش لم يأتِ صدفة، بل هو ثمرة عمل طويل شارك فيه العلماء وقادة المجتمع، وترسّخ من خلال مؤسسات التعليم والدعوة التي تبنّت نهج الاعتدال.
قوة النموذج الإندونيسي ارتكزت على عوامل تراكمت عبر عقود، إذ استطاعت الدولة منذ استقلالها أن تُنشئ إطارًا وطنيًا يجمع الجميع تحت مفهوم «بانكاسيلا»، وهو مفهوم الهوية الوطنية الإندونيسية الذي لا يلغي الانتماءات العرقية أو الدينية، لكنه يجعلها جزءًا من الكيان المشترك. ويشير هذا النموذج إلى أن الطريق نحو الوحدة في الدول ذات التركيبة المتنوعة لا يعتمد على تقليل الاختلافات أو تجاهلها، بل على تنظيمها ضمن إطار وطني مشترك يلتزم بالعدالة ويحترم الحقوق. وتجربة مسجد الاستقلال توضح أن بناء الثقة بين مختلف المكونات هي الأساس في تحقيق هذا الهدف. دور رابطة العالم الإسلامي وإسهاماتها في تعزيز قيم الوسطية والتعايش أشاد به الرئيس الاندونيسي، عبر إبراز النماذج الإيجابية في أرجاء المعمورة. فهي المنظمة الدولية التي تبنت مبادرات دولية كوثيقة مكة المكرمة، ووثيقة بناء الجسور بين المذاهب، وبرامج الحوار بين الأديان والثقافات، وتعمل على تقديم الإسلام في صورته التي تنسجم مع رسالته الكبرى القائمة على السلام والتفاهم وبناء الجسور بين الشعوب.
كما تدل التجربة الإندونيسية على أن الاستقرار ليس نتيجة غياب التنوع، بل نتيجة وجود نظام قادر على استيعابه وإدارته. وهذا ما يجعل إندونيسيا نموذجًا مهمًا يمكن الاستفادة منه في رسم المستقبل، وفي البحث عن صيغ عملية للتوفيق بين التنوع والوحدة داخل المجتمعات الإسلامية.