غادة الوعلان
لم تعد اللغة العربية اليوم بحاجة إلى مزيدٍ من الاحتفاء الشكلي بقدر حاجتها إلى مشروع وعيٍ يعيد لها مكانتها بوصفها أداة تفكير وبناء، لا مجرد رمز ثقافي يُستدعى في المناسبات. وخصوصا في زمنٍ تتزاحم فيه الشعارات وتعلو فيه اللافتات البراقة، فيغيب الجوهر، وتضعف المنهجية، ويتراجع حضور اللغة في اللسان والفكر معًا.
إن الدفاع عن العربية لم يعد ترفًا لغويًا أو خطابًا عاطفيًا، بل ضرورة تربوية ومعرفية تمسّ هوية الجيل وقدرته على الفهم والإبداع والإنتاج. فاللغة التي لا تُحسن غرسها في سنوات التكوين الأولى، ولا تُدار بمنهج واعٍ في التعليم والإعلام، تفقد قدرتها على تشكيل الوعي، ويخسر أبناؤها أحد أهم مفاتيح النهضة والتقدم.
فأجمل احتفاء باللغة العربية أن يُرفع لواء نصرتها والدفاع عنها عبر بناء منظومة متكاملة بمنهجية مسؤولة لتطويرها وحمايتها ، في زمنٍ اختُزل فيه البرّ والوفاء للغة في شعارات عابرة وملصقات براقة تخطف الأنظار ببريق ألوانها وسحر إخراجها، بينما يكشف التعمّق في المضمون عن خيبة أمل بسبب ركاكة الصياغة أو كثرة الأخطاء التي تُعلَّل غالبًا بأنها مطبعية.
إن المحافظة على اللغة منذ تشكّلها الأول على لسان الطفل لم تعد خيارًا، بل أصبحت لزامًا تفرضه طبيعة العصر وتسارع إيقاعه، في ظل تداخل اللغات ومزاحمتها ألسنة الصغار والكبار. ولم يعد الأمر ترفًا ثقافيًا، وإنما ضرورة ملحّة تستوجب إعادة النظر في مناهج اللغة العربية وطرائق تدريسها، بما يضمن وصولها إلى قلوب أبنائها وعقولهم، حتى تمتلك حواسهم، ويجدوا في بحر مفرداتها صيدًا مبتكرًا لمعنى فريد، أو صياغة دقيقة تعبّر عن الفكرة بأبلغ تعبير.
وما يعيشه أبناؤنا اليوم من استعجام وتكسّر في ألسنتهم، بين عامية مفرطة وألفاظ أجنبية دخيلة، أسهم في تسطيح أفكارهم وإخراج فهمهم عن إطاره الصحيح، وهو ما أكدته نتائج اختبارات اللغة لدى طلابنا، التي تعكس ضعف الكفاية اللغوية وأثرها المباشر في التفكير والتحليل.
فإذا أردنا جيلًا منتجًا، مبتكرًا، وأصيلًا، فعلينا أن نمسك بلغته، وأن نغرسها في تفكيره وخياله وإنتاجه؛ وإلا فلا عجب أن نشكو من السطحية أو التبعية. فالمفتاح بأيدينا، ومن يُحسن تقدير هذا المفتاح سيجد ما يسره.
فالالتفات الجاد إلى اللغة العربية، عبر حملة تصحيح شاملة في التعليم والإعلام والمنصات الرقمية واللقاءات والمؤتمرات، وجعلها اللسان الرسمي في الخطاب والممارسة، سيكون له أثر عظيم، وستكون ثماره وفيرة على مختلف الأصعدة.