صالح الشادي
يُعد الكرم نسيجًا أصيلاً في ضمير الأمة العربية، نما في صحرائها الواسعة كالنخلة، صامدًا في وجه الزمن، متجذرًا في القيم، متوهجًا بالعطاء. فهو ليس عادة بل شيمة، وليس تصرفًا بل هوية.
وفي المملكة العربية السعودية، يمثل هذا الخُلُق امتدادًا حيًا لقلب الجزيرة النابض، حيث يلتقي إرث الآباء والأجداد بروح الإسلام السمحة، ليرسم لوحة إنسانية رائعة يتقاطع فيها العطاء المادي مع دفء القلب، والتكريم مع التمكين.
لطالما كانت البادية والقرى مدارس للكرم، حيث كان شرف المجلس لا يكتمل إلا بوجود الضيف، وكانت الموائد امتدادًا لسعة الصدر قبل سعة الرزق. ثم جاء الإسلام ليُكرّس هذه القيمة ويرفعها إلى مصاف العبادة، وجعل من الإنفاق في أوجه النصر والخير زكاة للنفس قبل المال.
وفي العصر الحديث، نرى هذا الموروث النبيل يتجسد في صورة وضيئة، تحوّل فيها كرم الفرد إلى رؤية أمة، وعطاء الشخص إلى سياسة دولة.
فها هو الملك فهد بن عبدالعزيز (رحمه الله) الذي حمل قلبًا كبيرًا للعالمين، فكانت أياديه البيضاء سقفًا للإغاثة وأرضًا خصبة للمساجد والمستشفيات والمشاريع التي انتشرت في أصقاع الأرض، حاملةً معها اسم «خادم الحرمين الشريفين» بكل معاني الخدمة والعطاء. كغيره من ملوك الوطن العظام من الراحلين الذين تحدث التاريخ عن عطائهم وكرمهم ، ويسير على الدرب خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز (حفظه الله) الذي عُرف طوال مسيرته بأنه «رجل المواقف الإنسانية»، فقلبه لا يعرف الحدود، ومساعداته تسبق الأزمات، كأنه يذكرنا دائمًا بأن الكرم رسالة سامية قبل أن يكون مادة.
ولا ننسى أولئك الذين جعلوا من العطاء منهج حياة، مثل الأمير سلطان بن عبدالعزيز (رحمه الله) الذي كان عطاؤه سرًا وجهرًا، يبحث عن المحتاج فيختبئ له في ثنايا الليل ليكرمه في وضح النهار.
ويأتي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان (ولي العهد) -حفظه الله- على رأس القادة الكرماء فقد قدّم مفهوماً شاملاً للكرم، جاعلاً إياه استثمارًا في الإنسان وبناءً للمستقبل. فمبادرات «مسك» الخيرية وبرامج التمكين ورؤية 2030، كلها تحمل روح الكرم النبيل الذي لا يكتفي بإعطاء السمكة، بل يعلم الصيد ويهيئ السفن، ليكون العطاء مستدامًا، والأثر باقيًا.
وهذا الكرم لم يقتصر على القادة فحسب، بل تسرب إلى شرايين المجتمع كله. فمن الأمير عبدالعزيز بن فهد الذي يُشار إليه بالبنان في سجل الكرم والعطاء الاجتماعي، حيث تُحكى عنه مواقف خيرية عديدة تركت أثرًا طيبًا في نفوس الكثيرين الى الأميرة عادلة بنت عبدالله ببرامجها التنموية، إلى الأمير الوليد بن طلال بمؤسساته العالمية، إلى رجال الأعمال مثل صالح الراجحي وسليمان العليان وغيرهم من الذين حوّلوا ثرواتهم إلى أوقاف تدرّ الخير على الأجيال، إلى ذلك المواطن الصالح الذي يضع زكاة ماله في يد جاره المستحق في صمت.
هذا العطاء ترك أثره العميق في نسيج المجتمع السعودي، فأنشأ مجتمعًا متكافلاً يشعر فيه الفقير بالأمان، والغريب بالاحترام، والمحتاج بالأمل. وهو عين ما دعا إليه ديننا الحنيف، الذي جعل الإحسان شعبة من شعب الإيمان، والتكافل ركيزة من ركائز الأمة.
لقد نجحت المملكة، بقادتها وشعبها، في تحويل الكرم من قيمة تراثية إلى ثقافة حية، ومن عمل فردي إلى سياسة دولة، ومن عاطفة عابرة إلى منهج تنموي. فهي تذكر العالم دائمًا أن أعظم القيم هي تلك التي تخرج من القلب إلى اليد، لتبني إنسانًا، وتعمر أرضًا، وترسم مستقبلًا. الكرم هنا ليس حدثًا، بل هو قصة متجددة، وحكاية إنسانية تسردها الأجيال بفخر وامتنان.