فائز بن سلمان الحمدي
لم يكن أخطر ما واجهته الأمة عبر تاريخها أن يُخالَف النص، فالمخالفة صريحةٌ تُرى وتُقاوَم، وإنما الخطر كل الخطر أن يُسطى على النص باسم فهمه، وأن يُتَكَلَّم فيه بغير علم، وقد جعل الله ذلك من أعظم المحرمات، إذ قرنه بالفواحش والشرك، فقال جل شأنه: {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}، كأنما ليُعلِم أن الانحراف الفكري أخطر من الانحراف السلوكي، وأن الكلمة المضللة قد تفسد ما لا تفسده المعصية الظاهرة. لقد كان كثير من الناس على الكتاب والسنة، على سلامة فطرة، وبساطة يقين، حتى فُتِحَ عليهم هذا الفضاء العريض، بلا ضابط ولا ميزان، فاختلطت الأصوات، وتقدَّم المتطفل في ثوب المصلح، وارتقى الجاهل منابر التأثير، حتى صار من لا علم له يخوض في أعمق مسائل الشريعة، ويُجاهر برأيه فيها، غير مكترثٍ بقول الله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}.
وهنا تبدأ الفتنة ناعمةً، لا صاخبة؛ يُقال للناس: كنتم مغيَّبين، واليوم وصلتم إلى الحقيقة، وكأن العلم وحيُ منصة، وكأن الفهم وليد خوارزمية، وكأن الله لم يجعل في هذه الأمة علماء يستنبطون، كما قال سبحانه: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}. فالاستنباط ليس لكل أحد، ولا الفهم العميق يُنال بالجرأة، وإنما يُنال بعكوفٍ طويل، وأدواتٍ راسخة، وخشيةٍ تحجز صاحبها عن التسرع. وما أكثر ما يُؤلم أن تُطرَح قضايا شرعية دقيقة على ألسنة من لم يعرفوا من العربية إلا ظاهرها، ولا من التفسير إلا عنوانه، ولا من أصول الفقه إلا اسمه. يقتطع أحدهم آيةً من سياقها، أو حديثًا من مجموع نظائره، ثم يبني على ذلك حكمًا، وكأن النص الشرعي شذرةٌ منفصلة، لا منظومةً متكاملة. وقد حذَّر الله من هذا المسلك حين قال: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ}، والتحريف ـ كما قرر أهل العلم ـ لا يكون فقط بتغيير الألفاظ، بل بتغيير المعاني، وحمل النص على غير مراد الشارع. إنهم قطاع طرقٍ على النصوص، لا يحملون معاول الهدم الصريح، بل سكاكين التشويه الهادئ؛ قصٌّ ولصق، تفريقٌ بين المتماثلات حين تخدم النتيجة، وجمعٌ بين المتناقضات حين يخدم الهوى، حتى يصبح الهوى قائدًا، والنص تابعًا، وقد قال الله تعالى محذرًا: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}.
وقد صدق النبي صلى الله عليه وسلم حين كشف مآلات هذا المسلك قبل قرون، فقال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا، ولكن يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جُهَّالًا، فسُئِلوا فأفتَوا بغير علم، فضلُّوا وأضلُّوا».
فليس أخطر من جاهلٍ صادقٍ إلا جاهلٍ متصدِّر، يملك الجرأة ولا يملك الأمانة.
وليس من العدل أن يُسمَّى هذا المسلك تجديدًا، فالتجديد إحياءٌ منضبط، لا اجتزاءٌ مخلّ، ولا قفزٌ فوق المقدمات.
إن الشريعة لم تُفهم يومًا خارج علومها: لغةً تُدرَس، وتفسيرًا يُتلقَّى، وأصولًا تضبط الاستدلال، وفقهًا يراعي المقاصد والمآلات. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «العلماء ورثة الأنبياء»، والوراثة لا تكون ادعاءً ولا صخبًا، بل حملَ أمانة، وصبرَ طلب، وخشيةَ مقام. أما أولئك الذين يزهدون في هذه الأصول، ويسخرون من التخصص، ويستبدلون العكوف بالاختصار، فإنما يفتحون أبواب الضلال وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا. وقد قال صلى الله عليه وسلم محذرًا: «من قال في القرآن برأيه، أو بما لا يعلم، فليتبوأ مقعده من النار»، وقال: «أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار».
ومن هنا، فإن المسؤولية لا تقف عند أهل العلم وحدهم، بل تمتد إلى كل من يرى أخاه قد باغتته الشبهات على حين غفلة. لا تُواجِهْه باتهام، ولا تتركه فريسةً للتشويش، بل قرِّبه من مصادر العلم، وذكِّره بأن الله قال: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}، فلم يأمر الجاهل أن يصير مرجعًا، بل أن يكون طالبًا صادقًا. كونوا قريبين ممن أربكتهم الأصوات، قريبين ممن خُدعوا بالعناوين، قريبين ممن ظنوا أن الجرأة علم، وأن المنصات مدارس. فالحق لا يضيع ما دام له من يدل عليه، والدين لا يُسرق ما دام له من يحرس معانيه، والنص لا يُهان ما دام في الأمة من يعلم أن أعظم العبادة أن تقول: لا أدري، إذا لم تعلم.