حمد خليفة منصور
في المجتمعات الحية تُمثّل الشخصية المستنيرة ركيزة التوازن والاعتدال، فهي تتعامل مع ذاتها ومع الآخرين بتسامحٍ واتزان، وتطرح أفكارها بهدوء، وتؤمن بأن الإصغاء فضيلة لا تقل قيمةً عن إبداء الرأي. غير أن هذا النموذج، وإن وُجد، بات نادراً وسط أصواتٍ ترتفع ضجيجاً أكثر مما تصنع وعياً.
في فضاءات كرة القدم مثلاً، يختلط الحماس بالعاطفة، يشتعل الحماس الجماهيري خلف ألوانٍ وشعارات، فيتحول الحدث الرياضي إلى ساحةِ جدلٍ غير منضبط، يغيب فيها المنطق، ويحضر التعصّب بكل صوره. يتجادل الأنصار حول ظلم الهزيمة قبل أن يسألوا عن مكمن الخطأ، يتهمون الحكم أو المدرب بينما يغيب عنهم أن الخسارة جزء من سنن اللُعبة.
لكن المفارقة المؤلمة تظهر حين تنتقل عدوى المدرجات إلى دهاليز السياسة!
هناك يُفترض أن يسود العقل حيث لا مكان للعاطفة المنفلتة، أن يحتكم الحوار إلى الحجة والوقائع، لا إلى الصراخ والاتهامات.
غير أن الواقع السوداني اليوم يكشف عن مناخٍ بات أشبه بمدرجٍ صاخب منه بمنبرٍ فكريٍّ ناضج. كثيرٌ من الساسة والكتّاب والمحللين والمفكرين باتوا يتحدثون بلغة الإقصاء والتخوين، وكأن الانتماء الحزبي أصبح «فريقاً» يسعى لهزيمة خصمه لا الحوار معه.
إن ما يشهده السودان من تشرذمٍ سياسي وانقسامٍ فكري، وما صاحب ذلك من حربٍ عبثية عمياء، لم يكن وليد البارحة. هو نتيجة تراكمٍ طويل للغضب الجمعيّ وفقدان روح التسامح، وغياب القدرة على الاعتراف بالآخر.
كل طرفٍ يرى في ذاته الحق المطلق، ويُنكر على الآخر أي ذرة من صواب، فيتحول الوطن إلى ساحة خلاف دائم لا رابح فيها.
ما تحتاجه بلادنا (السودان) اليوم ليس مزيداً من الأصوات العالية، بل عودة إلى فضيلة الهدوء والتفكير.
أن يتعلم السياسي كيف «يخسر» كما يتعلم المشجع كيف يتقبل هزيمة فريقه. أن يصبح الحوار بحثاً عن الحقيقة لا معركة لإثبات الذات. وأن ندرك أن الوطن لا يبنى بالشعارات ولا بالولاءات الضيقة، بل بالاحترام المتبادل والإيمان بالمصير المشترك.
فحين تنتصر لغة العقل على لغة الغوغاء، وحين يعلو صوت الحكمة على هدير الكراهية، فقط حينها يمكن أن نستعيد السودان الذي نحلم به، وطناً يتسع للجميع دون أن يستثني أحداً.