أسامة الفريح التميمي
انطلاقاً من رؤية المملكة 2030 ومن توجيهات سمو سيدي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- حين تم إطلاق المشروع الأساسي في مجال الذكاء الاصطناعي HUMAIN في مايو 2025، والذي هدف إلى بناء منظومة متكاملة لـ«سلسلة الذكاء الاصطناعي» (AI value chain)، بدءًا من البنية التحتية (مراكز بيانات، حوسبة سحابية) إلى تطوير نماذج وتقنيات ذكاء اصطناعي متقدمة، وتطوير نموذج لغوي كبير (large - language model، LLM) قوي وبـ«لغة عربية» ليكون من أبرز النماذج العربية في العالم، وهي خطوة تأتي في إطار سعي المملكة العربية السعودية لتصبح مركزًا عالميًا للذكاء الاصطناعي والبيانات وليس فقط مستهلكًا لها. ولعل هذا الطرح وهذا السعي من سمو سيدي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- كان حافزاً ودافعاً للتفكير في وضع تصور استشرافي لتطوير التخصصات العلمية في الجامعات السعودية في ضوء برامج وآليات الذكاء الاصطناعي.
فتطوير مقررات التعليم الجامعية في ضوء معطيات الذكاء الاجتماعي لم يعد خياراً تحسينياً يمكن تأجيله، بل ضرورة علمية واستراتيجية تفرضها تحولات المعرفة، وسوق العمل، والتكنولوجيا، وأنماط التعلم لدى الأجيال الجديدة. فالمقررات الجامعية هي الأداة الأساسية التي تُترجم من خلالها رؤية الجامعة ورسالتها إلى نواتج تعلم ملموسة، وبالتالي فإن جودتها وحداثتها تحددان بصورة مباشرة مستوى خريجيها ومدى قدرتهم على الإسهام في التنمية الوطنية والمنافسة عالمياً. ولعل الحاجة لتطوير التخصصات العلمية في الجامعات السعودية في ضوء الذكاء الاصطناعي تنطلق من التغيرات الحاصلة في مجال التعليم والثورة الرقمية التالية:
* أولاً، يفرض التسارع المعرفي المتواصل ضرورة مراجعة المحتوى العلمي للمقررات الجامعية على نحو دوري. فمتوسط «عمر المعرفة» في كثير من التخصصات – لاسيما التقنية والهندسية والطبية – أصبح قصيراً، إذ تتغير المعايير والبرمجيات والأدوات والمنهجيات خلال سنوات قليلة. وعليه فإن استمرار تدريس محتوى وُضع قبل عشر أو خمس عشرة سنة يعني تخريج طلاب بمعلومات قد تكون منتهية الصلاحية جزئياً أو كلياً، وهذا يخلق فجوة بين ما يتعلمه الطالب في القاعة وما يواجهه في سوق العمل أو في البحث العلمي. من هنا، يصبح تطوير المقررات ضرورة لضمان مواكبة آخر ما توصلت إليه الأبحاث والابتكارات، وتضمين المفاهيم والاتجاهات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات، والاستدامة، وريادة الأعمال في مختلف التخصصات.
* ثانياً، تغيّرُ متطلبات سوق العمل يجعل تحديث المقررات أمراً حتمياً. فالتقارير الدولية والوطنية تشير إلى أن كثيراً من الوظائف الحالية ستختفي أو تتغير جذرياً، وأن الطلب يتزايد على مهارات جديدة عابرة للتخصصات، مثل التفكير التحليلي، وحل المشكلات المعقدة، والعمل الجماعي، والتواصل الفعال، والابتكار، والمرونة والتعلّم مدى الحياة. فإذا بقيت المقررات الجامعية أسيرة التركيز على الحفظ والنقل المعرفي، وابتعدت عن تنمية هذه المهارات العليا، فإنها تحكم على خريجيها بالهشاشة الوظيفية وعدم القدرة على التكيف مع تحولات الاقتصاد المعرفي. فتطوير المقررات هنا يعني إعادة بنائها على أساس نواتج تعلم واضحة تُترجم إلى مهارات فعلية، مع إعادة تصميم الأنشطة والتقويم والأساليب التدريسية بما يخدم هذه النواتج.
* ثالثاً، يقتضي تطور التكنولوجيا التعليمية – وعلى رأسها التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي – إعادة النظر في كيفية تصميم المقررات وتقديمها. فوجود أنظمة إدارة التعلم، ومنصات المساقات المفتوحة، وأدوات المحاكاة والواقع الافتراضي، وتقنيات التعلّم التكيفي، يتيح فرصاً واسعة لتحويل المقرر الجامعي من «محاضرات تقليدية» إلى «تجربة تعلم تفاعلية»، تجمع بين حضور فعّال، وتعلم ذاتي، ومشروعات تطبيقية، وتمارين محاكاة، وتغذية راجعة فورية. فالمقرر الجامعي المطوّر لا يكتفي بإضافة شرائح عرض رقمية، بل يعاد بناؤه ليستفيد من إمكانات الأدوات الرقمية في تخصيص التعلم، ودعم الفروق الفردية، وقياس التقدم بدقة، وتحفيز الطالب للمشاركة الفاعلة بدلاً من التلقي السلبي.
* رابعاً، شهدت العقود الأخيرة تحوّلاً في النظريات التربوية، وانتقالاً من نموذج التعليم المتمركز حول المعلّم إلى نموذج التعليم المتمركز حول المتعلم، وهو ما يستدعي تطوير المقررات لتكون أكثر تكيّفاً مع أنماط التعلم المتنوعة، وأكثر تشجيعاً للتفكير النقدي والإبداعي، وأقل اعتماداً على الامتحانات التقليدية. فالمقرر المصمم وفق مدخل الكفاءات أو نواتج التعلم يضع الطالب في قلب العملية التعليمية، ويمنحه أدواراً فاعلة: يستقصي، يناقش، يطبّق، يقيّم ذاته، ويُنتج المعرفة بالتعاون مع زملائه، بدلاً من أن يظل متلقياً فقط. هذا التحول لا يتحقق إلا من خلال تطوير عميق للمحتوى، ولأساليب التدريس، وأدوات التقويم ضمن إطار كل مقرر.
* خامساً، أصبحت الجامعات اليوم جزءاً من منظومة تصنيف وجودة عالمية، تُقاس فيها فاعليتها بمدى ملاءمة برامجها ومقرراتها للمعايير الدولية، ونسبة توظيف الخريجين، وجودة مخرجات التعلم، والقدرة على الابتكار والبحث. لذلك يمثل تطوير المقررات محوراً أساسياً في الاعتمادين البرامجي والمؤسسي؛ إذ تُطلب أدلة واضحة على أن المقررات خضعت لتقييم علمي، ومراجعة خارجية، واستجابة لآراء سوق العمل والخريجين والطلاب، وأنها تحقق مواءمة حقيقية بين الأهداف التعليمية ووسائل التنفيذ ونتائج القياس. ومن دون عملية تطوير منهجية للمقررات، ستجد الجامعات نفسها متأخرة في سباق التنافسية والتصنيف والاعتماد.
* سادساً، يتصل تطوير المقررات الجامعية أيضاً بضرورة تعزيز الارتباط بين التعليم الجامعي والبحث العلمي وخدمة المجتمع. فالمقرر الحديث لا يقتصر على تقديم مبادئ نظرية، بل يربط الطالب بقضايا واقعية ومشكلات مجتمعية، ويشركه في مشروعات بحثية صغيرة، أو دراسات حالة، أو ابتكارات بسيطة ذات أثر فعلي. من خلال هذا الربط، يكتسب الطالب مهارات البحث والاستقصاء، ويشعر بأهمية تخصصه في معالجة التحديات الوطنية، كقضايا البيئة، والصحة، والتحول الرقمي، وجودة الحياة، وريادة الأعمال الاجتماعية. تطوير المقررات هنا يصبح وسيلة استراتيجية لتحويل الجامعة إلى فاعل رئيس في التنمية، لا مجرد جهة مانحة للشهادات.
* سابعاً، من الأبعاد الجوهرية التي تبرز أهمية تطوير المقررات الجامعية، الحاجة الملحّة إلى تضمين قيم المواطنة الرقمية، والأخلاقيات المهنية، والالتزام بالقيم الإنسانية والإسلامية، خاصة في ظل الانفتاح المعرفي الهائل والتحديات الثقافية التي يواجهها الشباب. حيث يمكن للمقررات أن تصبح منصة لتعزيز الوعي بالمسؤولية الاجتماعية، وأخلاقيات البحث العلمي، وأمانة التعامل مع المعلومات، واحترام التنوع، ونبذ التطرف، إذا صُمِّمت بعناية ودمجت هذه القيم في أنشطتها ومحتواها. أما إذا بقيت منعزلة عن هذه القضايا، فإن الجامعة تفوّت فرصة تربوية مهمة في بناء شخصية متوازنة للطالب.
* ثامناً، يتطلّب تطوير المقررات الجامعية منهجية علمية منظَّمة، تبدأ بتحليل الواقع واحتياجات الطلاب وسوق العمل، ومراجعة الأدبيات والنماذج العالمية، ثم صياغة نواتج تعلم واضحة وقابلة للقياس، يليها تصميم المحتوى والأنشطة وأساليب التقويم، ثم التجريب والتقويم المستمر، وجمع التغذية الراجعة من الطلاب وأعضاء هيئة التدريس والجهات الخارجية، فالتعديل والتحسين. هذه الحلقة المستمرة من التطوير تضمن أن المقرر ليس وثيقة جامدة، بل كيان حي يتطور باستمرار مع تطور المعرفة والمجتمع.
في ضوء ما سبق، تتأكد الأهمية والضرورة العلمية لتطوير مقررات التعليم الجامعية باعتبارها ركيزة رئيسة في تحسين جودة التعليم العالي، ورافعة أساسية لملاءمة المخرجات مع احتياجات الاقتصاد الوطني، وأداة فعّالة لمواكبة الثورة الرقمية والمعرفية، ووسيلة لبناء إنسان متعلم قادر على التكيف والإبداع والمنافسة عالمياً. إن الاستثمار في تطوير المقررات الجامعية ليس مجرد جهد أكاديمي داخلي، بل هو استثمار استراتيجي في رأس المال البشري، وفي مستقبل الوطن بأكمله.
وبالتالي فإن تطلعي الاستشرافي لما ينبغي عليه أن تكون التخصصات الجامعية في الجامعات يقوم على أن ندمج الذكاء الاصطناعي في مسميات التخصصات بحيث تكون أكثر حداثة، وهذا مشروع طموح لتحديث وتطوير التخصصات لتواكب وتعزز حداثة التخصصات وربطها بالتوجهات العالمية، ويبدأ ذلك من مدخل أساسي هو: كيفية دمج التخصصات في الذكاء الاصطناعي، فدمج أي تخصص أكاديمي مع الذكاء الاصطناعي لا يعني تدريس تخصص AI منفصل، بل يعني دمج مبادئ، أدوات، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي في صميم ذلك التخصص، ويُضرَب مثالاً على ذلك في الحقول التربوية على النحو الآتي:
* التربية العامة والذكاء الاصطناعي.
* علم النفس التربوي والذكاء الاصطناعي.
* المناهج وطرق التدريس بالذكاء الاصطناعي.
* التربية الخاصة والذكاء الاصطناعي.
* تقنيات التعليم والذكاء الاصطناعي.
* الإدارة التربوية والذكاء الاصطناعي.
* التربية الفنية والفنون الرقمية والذكاء الاصطناعي.
* التربية الإسلامية والذكاء الاصطناعي.
* اللغة العربية للتعليم والذكاء الاصطناعي.
* (السياسات التعليمية) حوكمة التعليم والذكاء الاصطناعي.
* التربية الرياضية والذكاء الاصطناعي.
ويؤكد المقترح أن الدمج يتم عبر مسارين رئيسيين: المسار الأول دمج المحتوى المعرفي: ويتم عن طريق تحديث المقررات الحالية لتعليم الطلاب كيفية استخدام وتطبيق أدوات الـ AI في مجالهم (مثل استخدام أدوات AI لتحليل سلوك الطالب في علم النفس التربوي).
أما المسار الثاني فيتم عبر دمج المهارات العملية: من خلال تزويد الطلاب بمهارات تقنية أساسية في الـ AI (مثل أساسيات البرمجة، جمع البيانات، واستخدام نماذج التعلم الآلي البسيطة) التي تخدم تخصصهم.
ويقترح المشروع إعادة تصميم مسارات الرياضيات والعلوم من خلال دمجها بالتقنية والذكاء الاصطناعي، عبر ثلاث مسارات أساسية:
* أولاً: مسار التحليل والذكاء الاصطناعي: ويشتمل (العلوم الرياضية وتحليل البيانات المتقدم، الرياضيات التطبيقية وذكاء الأنظمة العلمية، النمذجة الرياضية والمحاكاة الحاسوبية).
* ثانياً: مسار التعليم وتكنولوجيا التعلم ويتضمن (العلوم والرياضيات للتعليم الرقمي (STEM Ed - Tech)، وتطبيقات الرياضيات والعلوم في التعلم التكيفي).
* ثالثاً: مسار الحوسبة والتطبيق العلمي: ويتضمن (العلوم الحاسوبية الرياضية، التحليل الكمي والتعلم الآلي في العلوم).
ويفصّل المقترح هنا التصور المتقدم لمسارات الرياضيات والعلوم عند دمجها بالذكاء الاصطناعي، في ثلاثة مسارات رئيسية:
المسار الأول: التحليل والذكاء الاصطناعي (الأساس النظري والتحليلي)
1 - العلوم الرياضية وتحليل البيانات المتقدم
الوصف والهدف: تزويد الطلاب بالأسس النظرية اللازمة لفهم وتطوير نماذج التعلم الآلي، مع التركيز على الإحصاء التطبيقي ونظرية الاحتمالات.
التطبيقات والمهارات: التنبؤ الإحصائي، تحليل السلاسل الزمنية، تطوير خوارزميات الانحدار والتصنيف.
المهارات: الإحصاء الرياضي المتقدم، نظرية المعلومات، استخدام لغة R و Python في التحليل.
2 - الرياضيات التطبيقية وذكاء الأنظمة العلمية
الوصف والهدف: استخدام الأدوات الرياضية المعقدة (مثل الجبر الخطي وحساب التفاضل والتكامل) في بناء الأنظمة الذكية التي تحاكي السلوكيات العلمية والطبيعية.
التطبيقات والمهارات: بناء نماذج التعلم العميق (Deep Learning)، تحسين أداء الشبكات العصبية، معالجة البيانات الهندسية.
المهارات: الجبر الخطي المطبق، التفاضل والتكامل متعدد المتغيرات، التحسين الرياضي (Optimization).
3 - النمذجة الرياضية والمحاكاة الحاسوبية
الوصف والهدف: تطوير نماذج رياضية تصف الظواهر المعقدة في العلوم المختلفة وتحويلها إلى محاكاة حاسوبية باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي.
التطبيقات والمهارات: نمذجة الأنظمة الديناميكية، محاكاة المناخ أو تدفق الموائع، استخدام نماذج AI للتنبؤ بنتائج التجارب العلمية.
المهارات: الطرق العددية، البرمجة عالية الأداء (HPC)، استخدام مكتبات NumPy وSciPy.
المسار الثاني: الحوسبة والتطبيق العلمي (التركيز على التنفيذ)
1 - العلوم الحاسوبية الرياضية
الوصف والهدف: دمج قوي بين علوم الحاسب والرياضيات، يركز على تصميم وتنفيذ الخوارزميات الحاسوبية لحل المشكلات الرياضية والعلمية.
التطبيقات والمهارات: تطوير برمجيات علمية متخصصة، استخدام تقنيات الحوسبة المتوازية، تطوير نماذج AI لحل المعادلات التفاضلية الجزئية.
المهارات: هندسة البرمجيات، هياكل البيانات والخوارزميات، الحوسبة السحابية لـ AI.
2 - التحليل الكمي والتعلم الآلي في العلوم
الوصف والهدف: يركز على تطبيق تقنيات التعلم الآلي (ML) لاستخراج المعرفة والأنماط من البيانات الكمية الكبيرة في المجالات العلمية المتخصصة.
التطبيقات والمهارات: تحليل الصور الطبية، اكتشاف الجزيئات الجديدة، تحليل البيانات الفلكية.