د. سامي بن عبدالله الدبيخي
سعدت كثيرًا بحضور ملتقى هيئات تطوير المناطق والمدن وتنظيم هيئة تطوير المنطقة الشرقية خلال يومي 8 و9 ديسمبر والجلسة الحوارية التي تخللته وكانت بعنوان «مدن حية: عندما يصبح الإنسان محور التصميم والتخطيط». أتاح لنا هذا اللقاء فرصة تبادل الآراء والأفكار مع أهل الخبرة والاختصاص.
ولطالما تعاملنا، على مدى عقود مضت، مع المدينة وكأنها «معادلة رياضية» صماء؛ نحسب نجاحها بكميات الأسفلت المنسكب في طرقاتها، وارتفاعات الخرسانة التي تحجب سماءها، وعدد المواقف التي تلتهم فراغاتها. ورغم النهضة العمرانية السريعة التي شهدتها المملكة، إلا أننا بنينا مدناً سريعة جداً للسيارات، لكنها «ضيقة جداً على النفس الإنسانية». وهذا المنطق، كان مفهومًا في سياقه الزمني.
اليوم، ونحن نشهد تحولاً غير مسبوق في ظل رؤية 2030، يبرز السؤال الأكثر إلحاحاً: هل مدننا صالحة للحياة أم هي مجرد ممرات لعبور المركبات؟، إن التحدي الجاثم على صدور مدننا هو «هيمنة السيارة» المطلقة، حيث تستحوذ على 94% من تنقلاتنا، وتستولي الطرق والمواقف على 62% من مساحة شوارعنا.
لقد تحولت مدننا من نسيج عضوي حي للمشاة إلى شبكة صلبة للآلات، قضينا فيها على مبدأ «صناعة المكان» لصالح «سفلتة الطريق».
لكن الخطر لا يكمن في الحاضر فحسب، بل في التحول الديموغرافـي المتوقع. تشير الإحصاءات إلى أن نسبة كبار السن ستقفز من 5% حالياً إلى 25% بحلول عام 2050. هذا التحول يضعنا أمام استحقاقات اجتماعية واقتصادية، فالمسن الذي يفقد قدرته على القيادة في مدننا الحالية، يتحول فوراً إلى «سجين منزله».
المدينة التي لا تحترم شيبة المسنين ولا ترحم ضعف الشيخوخة ستكلفنا أضعافاً كثيرة في الرعاية الصحية والعزلة الاجتماعية.
إن طريق «أنسنة المدن» ليس مفروشاً بالورود، إذ تواجهه عقبات ذهنية قبل أن تكون مادية. أبرزها تلك القناعة المستسلمة بأن «مناخنا الحار لا يسمح بالمشي.» والحقيقة أن الحل يكمن في التصميم الذكي، والتظليل الطبيعي، وتوجيه المباني، تماماً كما نجحت مبادرات تخفيف الإجهاد الحراري في المشاعر المقدسة بمكة المكرمة. علينا الانتقال من فكرة «التقسيم الوظيفي» للأراضي إلى مفهوم «صناعة المكان» (Place-making) حيث يرتبط الإنسان بذاكرة المكان لا بجماد المبنى.
إن المخططات الحضرية والإقليمية الجديدة هي «بوصلة التنمية» ودستور المدينة القادم. لم يعد مقبولاً أن يكون هدف المخطط مجرد تنظيم الملكيات، بل يجب أن يتحول إلى «هندسة لجودة الحياة». نحتاج إلى فرض معايير «المدينة الرحيمة» ومدن الـ 15 دقيقة، حيث يجد الساكن احتياجاته مشياً على الأقدام في محيط 800 متر.
ختاماً، لكي نتأكد من أننا نسير في الاتجاه الصحيح، ولضمان أن الإنسان هو الأولوية فعلاً لا قولاً، أقترح اختباراً بسيطاً لنجاح أي مخطط حضري جديد. يجب أن يبدأ المصمم بسؤال واحد يكتبه على غلاف المخطط: «إذا فقدتُ القدرة على قيادة السيارة غداً، هل ستظل تعيش في هذا الحي بارتياح؟» إذا كانت الإجابة «لا»، فكل الحلول الهندسية الأخرى ستكون فاشلة وستظل مجرد حبر على ورق.
في الأخير، لا يسعني إلا أن أتقدم بالشكر الجزيل مجددًا ومكررًا لمركز دعم هيئات تطوير المناطق والمدن ولهيئة تطوير المنطقة الشرقية على كريم الدعوة وتنظيم هذا اللقاء الذي أتاح لنا تبادل الأفكار مع المهتمين والخبراء بالشأن العمراني والتخطيطي في مدن مملكتنا الحبيبة.