د. محمد بن إبراهيم الملحم
بالنسبة لتنمر الطلاب الكبار من الفئة العمرية (13-15 سنة) فهي مرحلة المراهقة المبكرة وحساسية المكانة حيث تتسم ببحث مكثّف عن الهوية والاستقلال وتتضخم قيمة «الشلة» والمجموعة، وقد يُعتبر التنمّر جزءًا من «الفكاهة» أو «الهيبة»، وهنا تكون المعالجة من خلال حوار ناضج «من كبير إلى كبير» فعليك أيها الوالد أن تتجنّب الاقتصار على الأسلوب الوعظي واستخدم لغة تشاركية في المسؤولية، مثل قولك «أنت الآن في عمر تُحاسَب فيه على كلماتك وأفعالك. وسلوك التنمّر قد يترك سجلًا أسود ضدك، ويشوه صورتك» ثم عليك بربط التنمّر بالهوية والقيم، لا بالعقوبة فقط، فتقول له «ما نوع الإنسان الذي تريد أن تكونه؟ وهل تريد أن يتذكرك زملاؤك كشخص أضحك الجميع على حساب شخص بريء؟» فإن هذا النوع من الأسئلة ينسجم مع ما تشير إليه دراسات عن دور القِيَم الأخلاقية والذكاء الوجداني في الحد من التنمّر، هناك نتائج مراجعات علمية واسعة تُظهر أن الرقابة الوالدية النشطة (الحوار، القواعد، المراقبة المتوازنة) تقلّل من احتمالات الانخراط في التنمر، وأما إذا تكرر السلوك بعد هذه الجهود الأولية والتي غالبا تثمر مع أغلب الطلاب، فلابد من اللجوء إلى مساعدة متخصّص، وإذا تكرّر التنمّر، أو ظهر تزامنه مع علامات قلق أو اكتئاب أو حتى تعاطٍ لمواد ضارة أو انخراط في عنف خارج المدرسة -لا سمح الله-، فلابد من إحالة الابن إلى أخصائي نفسي، وقد أشارت بعض الدراسات إلى علاقة تربط بين سلوك التنمّر ومشكلات نفسية أعمق تحتاج إلى تدخّل مهني.
ولعلنا أيضاً نشير إلى أخطاء شائعة يقع فيها بعض أولياء الأمور عند معرفتهم أن ابنهم يتنمر (أيا كانت فئة العمر) حيث أولاً يظهر الإنكار الكامل بقولهم «ابني لا يمكن أن يفعل ذلك، أكيد المشكلة من الطالب الآخر». وهو ما يحرم الابن من فرصة التعلّم، بل إن الابن إذا علم عن هذا الإنكار فقد يبث له ذلك رسالة ضمنية أن سلوكه العدواني مقبول طالما أنه لا يُكشف بشكل صريح، وفي الطرف الآخر مع الأسف فإن هناك آباء قد يستخدمون العنف لمعالجة العنف مثل ضربه عندما يضرب الآخرين، أو السخرية منه لأنه سخر من زملائه، وهذا سوف يرسّخ في اللاوعي لديه أن «من يملك القوة يملك الحق في الإيذاء». فالأب أعطى لنفسه الفرصة للإيذاء لأنه يملك القوة والنفوذ في البيت! وعلى نفس الوتيرة فإنه متى وجد الطالب نفسه في موضع قوة بالنسبة إلى أحد زملائه فسوف يقوم بإيذائه استنادا على هذا المنطق.
ومن الأخطاء أيضا أن يتجاهل الأب السياق المدرسي حيث يتم الاقتصار على توبيخ الابن دون التواصل مع المدرسة لمعرفة ما إذا كان الابن أيضًا ضحية تنمر في مواقف أخرى، أو إن كان هناك مناخ صفّي أو مدرسي يشجّع على التنمّر، لذلك هناك ضرورة للشراكة الحقيقية بين الأسرة والمدرسة لتكتمل الصورة للطرفين ليعملا معا على وضع خطة متكاملة ومتآزرة لحل المشكلة.
كما أن المدرسة عليها أن تنظم برامج توعوية وعلاجية موجَّهة للمُتنمّرين أنفسهم فإن كثيراً من المدارس عبر العالم والتي نجحت في خفض التنمّر تطبق برامج وأنشطة تعلّم اجتماعي- انفعالي تستهدف المتنمّرين والضحايا معًا، وتعمل على بناء مهارات التعاطف وحل النزاعات، خاصة أن الوقاية خير من العلاج، وفي هذا الصدد فإنه من الضروري للبيت بناء علاقة دافئة مع الأبناء (حوار يومي، وقت مشترك) فهو خط الدفاع الأول ضد ظهور السلوك العدواني، وكذلك وضع قواعد أسرية واضحة، مع الامتناع التام عن السخرية أو الإيذاء داخل البيت سواء بين الإخوة، أو من الوالدين أنفسهم، وإن اكتشاف أن الابن يمارس التنمّر ليس حُكمًا نهائيًا عليه، بل هو فرصة تربوية نادرة لإعادة تشكيل طريقته في فهم القوة والاختلاف والعلاقة بالآخرين، ويكون دور وليّ الأمر هنا ليس فقط «إيقاف السلوك» بل مساعدة الابن على أن يفهم نفسه، ويُصلح ما أفسده، ويتعلّم أن يكون قويًّا بلا قسوة، واثقًا بلا إذلال للآخرين.
إن ترك التنمر دون علاج لا يؤسس للشخصية العدائية فقط بل قد يكون بذرة تكوين مجرم يؤذي المجتمع في المستقبل البعيد سواء إيذاء مباشراً بارتكاب الفعل الجرمي الصريح أو ممارسة أفعال مؤذية مثل النميمة والإيقاع بالآخرين سواء في مجتمعه المحيط به أو في بيئة العمل حيث إيذاء زملاء العمل أو حتى التسلق على أكتافهم أو الخداع والمماطلة، وعلى أقل تقدير ممارسة الاستهتار بمصالح الناس التي تحت يده وتفضيل راحته على أن يبذل الجهد لتكون الخدمة المقدمة للمستفيدين مناسبة وتصلهم في وقتها وبالطريقة الصحيحة التي لا يحتاجون معها للمراجعة والتعديل.
** **
- مدير عام تعليم سابقاً