محمد الخيبري
لم تكن خسارة منتخبنا الوطني في نصف نهائي كأس العرب FIFA أمام النشامى الأردنيين مجرد خروج من بطولة، بل كانت جرس إنذار هزَّ الوجدان وكشف الستار عن أزمة هوية حقيقية تعصف بالكرة السعودية.
فالبطولة التي كانت «في المتناول»، فُقدت لعدة عوامل متراكمة، لعل أبرزها يكمن في قلب معادلة الكرة السعودية الحالية: الموازنة المفقودة بين صخب الاحتراف ومصلحة المنتخب الوطني.
لقد كشفت هذه الخسارة المريرة عن عارض مزمن: انحسار حقيقي ومخيف في قاعدة المواهب الكروية السعودية.. لم يعد المنتخب يمتلك ذاك الزخم من النجوم القادرة على حسم المباريات وإحداث الفارق، بل أصبح يعتمد، إن جاز التعبير، على نجم أو نجمين بالكاد يحملان عبء جيل كامل.
إن السبب الأعمق والأكثر وضوحًا لـ «اندثار النجوم السعودية» يكمن في السياسة المتبعة في الأندية، وتحديداً في «الوفرة المبالغ فيها لعدد اللاعبين المحترفين الأجانب».. لقد تحوَّل الدوري السعودي إلى ساحة استعراض للتعاقدات الضخمة التي تهدف لرفع القيمة التسويقية للدوري عالمياً، ولكن على حساب الأصول الأهم: اللاعب المحلي.
هنا تكمن المفارقة الموجعة فالأرقام الفلكية لعقود المحترفين الأجانب والتي تفوق عقود السعوديين المحليين والذين يمتلكون قدرات فنية قد تفوق بالفعل أداء بعض المحترفين الأجانب المتواضعين، ولكن المحترف يتفوَّق عليه بعقده «اليوروي» ذي الأرقام الفلكية.. الأدهى والأمر هو أن عددًا كبيرًا من نجومنا الدوليين أصبحوا يقبعون على دكة البدلاء، كبدلاء شبه دائمين للاعبين أجانب قد يكونون أقل منهم مستوى، لكنهم يتمتعون بأفضلية اللعب الأساسي بحكم العقد وسياسة النادي التي تفرض إشراك الأجنبي لضمان استثمار العقد الضخم.. إن هذا الوضع يحرم اللاعب السعودي من دقائق اللعب الضرورية للنمو والتطور واكتساب الخبرة والاحتكاك المطلوب، ويهدِّد قدرته على تقديم الإضافة للمنتخب في اللحظات الحاسمة.
وفي خضم هذه المعطيات، يجد المنتخب السعودي نفسه أسيرًا لصراع تختلف فيه الأهداف وتتعدَّد فيه الأصوات، تحت عنوان «هم يريدون.. ونحن نريد»: هم يريدون (تيار النقد الجارح): وهو تيار يضم بعض المحسوبين على الإعلام الرياضي، وبعض الجماهير والمؤثِّرين بمواقع التواصل الاجتماعي، الذي اتخذ من جلد نجوم المنتخب وتصيّد أخطائهم منهجاً لاذعاً ومستمراً.. «هم يريدون» النقد لأجل النقد، أو لتحقيق مكاسب شخصية أو إثارة الجدل، وزيادة الضغط النفسي على اللاعبين بدلاً من احتضانهم وتوجيههم، مما يساهم في اهتزاز ثقتهم بأنفسهم.. ونحن نريد (تيار الجماهير المتعطشة): وهنا تكمن القاعدة الشعبية العريضة، التي تشارك الكاتب والجمهور نفس الشعور. «ونحن نريد» المنجز الوطني العظيم. هذه الجماهير المتعطشة لا تبحث عن إثارة الجدل أو تسجيل النقاط، بل تبحث عن رؤية منتخب قوي ومستقر يعيد للأذهان أمجاد الماضي ويسجل باسم الوطن مجدًا جديدًا..
إن إرادة هذه الجماهير هي بوصلة الكرة السعودية الحقيقية..
بين (هم يريدون) النقد الجارح و(نحن نريد) الإنجاز، يقف التيار الثالث والأكثر أهمية، وهو الاتحاد السعودي لكرة القدم.. هذه الجهة التنفيذية هي صاحب القرار والمسؤول الوحيد عن كل ما يحدث للمنتخب الوطني.
هذا التيار، الذي يصر على أن يكون الدوري السعودي ضمن أقوى الدوريات بالعالم، يبدو وكأنه يغرق في جمود وصمت مطبق تجاه الأثر السلبي لسياساته على المنتج الوطني. ويتمسك الاتحاد بهدف الدوري العالمي على حساب نجومنا الدوليين ومنتخبنا الوطني. هذا الصمت هو ما يفاقم الأزمة ويزيد من حدة التوتر بين التيارات الأخرى.
موازنة منطقية ومطالبات حتمية
إن المعادلة هنا واضحة: لا يمكن لدوري أن ينمو ويزدهر ليبقى ضمن القمة عالمياً إن كان أساسه ومنتجه المحلي يذبل.. إن قوة أي دوري تُقاس بقوة منتخبه الوطني.. لذلك، يصبح لزامًا على الجهة التنفيذية الصامتة أن تعيد النظر فوراً في مسألة «العدد المفرط للاعبين الأجانب»، وأن تكسر حاجز الصمت لتعلن التزامها بتغليب مصلحة المنتخب الوطني على أي مصلحة تسويقية أخرى.. إن هذا ليس تراجعًا عن التطور، بل هو تصحيح للمسار يضمن استدامة النجاح.
المطالبات المنطقية لإنقاذ المنتج المحلي وإرضاء «نحن نريد» تقليل عدد الأجانب: تخفيض العدد المسموح به للمحترفين تدريجياً لضمان عودة اللاعب المحلي إلى تشكيلة فريقه الأساسية.
آلية «كوتا» للمحليين: فرض عدد إلزامي من اللاعبين السعوديين تحت 23 عامًا يجب أن يشاركوا بصفة أساسية.. تفعيل دور الجهة المسؤولة: اتخاذ قرارات جريئة وواضحة توازن بين استثمار الدوري والحفاظ على قاعدة المواهب الوطنية.
لقد كانت الخسارة أمام الأردن في كأس العرب جرس إنذار صاخب.. إذا لم يتحرك صاحب القرار لكسر هذا الصمت وإيقاف هذا النزيف وتصحيح الموازين المختلة، فإننا سنكون أمام جيل من اللاعبين الموهوبين يتآكل على دكة الاحتياط، وسنستمر في دفع الثمن في كل محفل قاري ودولي.. فلتكن هذه الخسارة هي نقطة التحول والعودة إلى المنطق الذي يخدم راية الأخضر أولاً وأخيراً.