د. عبدالحق عزوزي
يعرف المتبحرون في العلاقات الدولية أن رئيس الدولة يقوم بعملية التنظير والاستراتيجية، وأن الدبلوماسيين يصبحون مخططين بامتياز لتنفيذ قرارات الدولة الخارجية؛ أي بمعنى آخر فإن رئيس الدولة يقوم بصياغة الاستراتيجية تماشيا مع مجموع القوى المتوفرة والرهانات والإمكانيات؛ كما يجب أن يكون له نسق فكري متقد وعلم ودراية كافية تجعله يستنبط أهم مقومات المرحلة اللايقينية والمستقبل شبه المجهول ليصل إلى الأهداف المرجوة ويحقق الغايات المطلوبة.
كما أن عمل الاستراتيجي يكون مختلفا عن المخطط؛ ففي مجال التدخل العسكري مثلا يكون دور المخطط يتمحور حول كيفية استعمال الأسلحة في المعركة للوصول إلى المردود الأقصى كما يتصوره الاستراتيجيون، أي أن مجال تدخله يبقى مرتبطا بالإجراءات والتدابير المختلفة التي على القيادة الميدانية اتخاذها في مكان العمليات العسكرية؛ وإذا كان هذا هو دوره، فإن هذا يكون شبيها بدور الدبلوماسي الذي عليه أن يقوم بمجموعة من التدابير الميدانية في مكان العمليات الدبلوماسية لتحقيق الأهداف العليا التي سطرها رئيس البلاد.
زد على ذلك أن وزراء الخارجية والدبلوماسيين ملزمون بتطبيق قرارات رئيس الدولة الخارجية أسواء اقتنعوا بها أم لا.
وهذا يذكرني بما قام به الجنرال-الدبلوماسي الراحل كولن بأول في حرب أمريكا ضد العراق، حيث كان من المنفذين الحرفيين لسياسة بوش في العراق دون أن يكون متفقا معه ومع مستشاري الرئيس من المحافظين الجدد الذين كانوا من معمري البيت الأبيض في تلك الفترة؛ وكل هذا مسطر في مذكرات كولن بأول التي نشرها قبل وفاته.
فتصدر كولن بأول الذي ينتمي إلى المدرسة المعتدلة، جهود الترويج لحرب العراق عند توليه وزارة الخارجية وساهم في إحداث بون بين الشرعية الدولية القائمة على الحفاظ على النظام العالمي والنظرة الاستراتيجية شبه القانونية التي لا تقوم على نظارات قانونية فلسفية صرفة.. فوقع التدخل العسكري الأمريكي- البريطاني رغما عن الرفض الفرنسي- الغربي والمثبطات القانونية المتنوعة في الأمم المتحدة، والبقية معروفة.
وكولن باول لا يتحمل المسؤولية وحده، فأساتذة الفن الاستراتيجي المؤهلين، في عهد الرئيس بوش (الابن)، كانوا هم المحافظين الجدد، ومازالت سياستهم الخارجية في تلك الفترة وتدخلهم العسكري دون حكمة استراتيجية، تلقي بثقلها على السياسة الخارجية الأمريكية؛ فحصل ارتباك في العمل الاستراتيجي، لأن أعضاء فريق الدبلوماسية والأمن القومي يعملون في مستويات مختلفة، وعندهم أدوار مختلفة في الدولة، والهياكل التنظيمية الهرمية، والجميع بحاجة إلى احترام دوره وعمله، من تخطيط واستراتيجية وسياسة، ليتم التواصل بشكل فعال، ولتبادل المعلومات فيما بينهم، ومع الشعب الأمريكي في نهاية المطاف.. وهذا الخلط هو الذي أدى إلى انحراف بعض الأدوار لبعض المؤسسات الأمريكية، وبالتالي إلى ضعف في الإنتاج والمردودية، وهذا يحيلنا هنا إلى قيمة دور المستشارين في صياغة الاستراتيجية. والسياسة الأمريكية مليئة بالدروس في هذا الجانب.
وهذا أيضا ما يمكن أن نستنتجه من مقتضيات خطاب كان قد ألقاه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بمناسبة الاجتماع السنوي للسفراء الفرنسيين في باريس، تطرق خلاله إلى جملة من المواضيع وعلى رأسها العلاقات الفرنسية - الإفريقية.
غابت الحكمة الاستراتيجية لسنوات في تأطير العلاقات الفرنسية الإفريقية، وفشل الدبلوماسيون المخططون في الخروج بنتائج إيجابية لصالح فرنسا؛ وبنوع من العتاب، انتقد الرئيس ماكرون جحود دول منطقة الساحل الأفريقي التي نسيت، كما قال، أن تشكر باريس على منع وقوعها في أيدي المتشددين، رافضا التلميح بأن بلاده تم إجبارها على الخروج من المنطقة، بمعنى فشل الاستراتيجية والتخطيط الفرنسيين.
انسحبت القوات الفرنسية في السنوات القليلة الماضية من مالي والنيجر وبوركينا فاسو بعد انقلابات عسكرية متتالية، كما انسحبت بطريقة متتابعة من التشاد والسنغال وساحل العاج. وكان رد رئيس المجلس العسكري في بوركينا فاسو الكابتن إبراهيم تراوري، على كلمة الرئيس الفرنسي مدويا عندما قال بالحرف: « هكذا يرى هذا الرجل أفريقيا، هكذا يرى الأفارقة. نحن لسنا بشرا بنظره»، متهما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون «بإهانة كل الأفارقة» وداعيا الدول الأفريقية لإلغاء كل الاتفاقيات مع فرنسا وليس فقط مطالبتها بمغادرة القواعد العسكرية في بلادهم.
عندما تفشل الاستراتيجية المركزية في صناعة الحكمة الدبلوماسية، فإنه يحصل ارتباك في العمل الدبلوماسي بأكمله، ويؤدي ذلك إلى ضعف في الإنتاج والمردودية، وهذا هو الجانب الخفي في تفسير فشل العديد من السياسات الخارجية.