د.محمد بن عبدالرحمن البشر
خلق الله السماء والأرض قبل مليارات السنين، ومهما قدر العلماء من زمن فهذا لا يعدو أن يكون تقديرًا علميًا ليس يقينيا، حيث ذكروا ان الإنفجار العظيم الذي تكون منه الكون كان قبل ثلاثة عشر ونصف مليار عام، والأرض تكونت قبل نحو أربعة ونصف مليار عام، وهذا ليس موضوعنا، لكن الأرض في بدايتها كانت دخان، وكانت كثيرة البراكين فلا مطر ولا صحراء، ثم أصبح هناك مطرًا كبريتيًا، ونشأت الحياة البدائية، ثم جاء الإنفجار الكمبري قبل خمسمائة وثمانية وثلاثين عامًا، وتعددت أنواع المخلوقات حتى يومنا هذا، وقبل اثنين وعشرين ألف عام بدأ الانحسار الجليدي، وقبل ثمانية آلاف عام بدأت تتكون الصحراء، حيث أصبح الجفاف سائدًا.
وهنا بدأ ارتباط وثيق بين السماء والمطر والصحراء، وتآلف بين الإنسان وهذه المعطيات الربانية، فهو يستخدم النجوم التي في السماء ليهتدي بها في المساء، وتحدد وجهته التي يبتغيها، وينظر إلى جمالها في السماء الصافية، فيستشعر عظمة الله وقدرته، وتآنسه في ليله وتسامره، وفي الليلة المقمرة يستمتع بضوء القمر، ويرى الأفق أمامه براقًا يمنحه عذوبة التفكير والإبداع، فيرفع صوته بدعاء ربه، او صلاته، او شعره ونثره، وقد يبث أحزانه بصوت مرتفع، فيفرغ شيئًا من آلامه.
في الصباح تشرق الشمس وتتسلل خيوط إشعاعها فيتلقفها الإنسان ليبدأ عمله، ويبحث عن قوت يومه، فإن كان الفصل صيفًا تنحى عنها، ورحل إلى الواحات القريبة، وان كان شتاءًا تدفأ بحرارتها واستمتع بما يصاحب ذلك من هواء عليل، والنجوم والشمس لا تبارحه مساءًا وصباحًا، بينما يتنقل القمر في منازله حتى يعود كالعرجون القديم.
يقول ابن الزقاق البلنسي:
قل للكواكب غضّي للكرى مقلا
فأعين الزّهر أولى منك بالسّهر
وللصباح ألا فانشر رداء سنا
هذا الدّجى قد طوته راحة السّحر
والمطر روح الصحراء، ومنفسها التي تتنفس من خلاله، فعند هطوله يزول عنها ذالك المنظر الشاحب ليعود البهاء والحسن، وتتفلق البذور وينمو العشب، وتورق الأشجار الصحراوية القابعة في الأودية، وتلبس حلة خضراء بهية تزينها زهور مختلفة الألوان تنشر عبق ريحها الزكي لينقله النسيم، فيعطي نفحة سحر نادرة، وتسير الأنعام في هدوء وخيلاء، وقد أخذت نصيبها من الكلأ، وأرتوت من ماء المطر، ولارتباط الإنسان العربي بالصحراء والمطر، فقد أطلق على المطر مفردات للدلالة على نوع المطر من حيث السرعة والكثافة والمدة وغيرها، فقالوا عن المطر الذي على هيئة ندى طل، والمطر الخفيف رذاذ، والخفيف المستمر هتان، والوابل على المطر كبير القطرات والسريع في الهطول، والغيث المطر الكثير، والغدق كثير القطرات، والصيب، وكذلك الصوب على المطر أثناء نزوله وبعد سيله وجريانه، وقد نسب إلى (ذو الوزارتين ابن زيدون) أنه قال بعد موت المعتضد بن إسماعيل بن عباد:
لَقَد سَرَّنا أَنَّ النَعِيَّ مُوَكَّلٌ
بِطاغِيَةٍ قَد حُمَّ مِنهُ حِمامُ
تَجانَبَ صَوبُ المُزنِ عَن ذَلِكَ الصَدى
وَمَرَّ عَلَيهِ الغَيثُ وَهوَ جَهامُ
والشاهد هنا ذكره الصوب والغيث، والحق ان المعتضد كان طاغية حتى أن المجتمع الإشبيلي استغرب استمرار ابن زيدون معه دون أن يفتك به، وهو الذي لا يبقي ولا يذر، لكن ابن زيدون كان حذرًا وهو الوزير الخبير بطبائع حكام الأندلس في قرطبة وإشبيلية وغيرها، ومثله لا يمكن ان يقول مثل هذا الشعر، لكن الأعداء والحساد أرادو الكيد به، فلم يثن ذلك المعتمد بن المعتضد عن تقريبه وتوليته.