هويدا المرشود
ومن يملك صمتَ الحقيقة حين تُسحَب من يدها؟
رنَّ الهاتف.
ليس مهمًا ما ظهر على الشاشة.. المهم أنه اختار لك ما يجب أن تراه.
صورة تُدخلك في القصة دون أن تكون طرفًا فيها.
تفصيل صغير، لكنه كافٍ ليُربّي رأيًا كاملًا في رأسك عن شخص لم تقابله، وعن حدث لم تشهده.
وهنا يبدأ السؤال الذي لا يحب الإعلام سماعه:
من يكتب؟
ومن يكتفي بأن يُقرأ؟
ليست المسألة نقل خبر.
المسألة اختيار زاوية، حذف جملة، إبقاء صورة، رفع صوت، خفض آخر.
المسألة أن أحدهم يقف خلف الستار، ويقرر شكل الهواء الذي نتنفسه فكريًا.
الكاتب الشاب يمدّ يده نحو الضوء، فيصطدم بسياج غير مكتوب.
ليس لأنه بلا موهبة، بل لأن الضوء لا يذهب للكتابة.. بل للاسم.
الروائي يُحاكَم من صفحة الغلاف، قبل أن تُقرأ السطر الأول.
والقيمة تُستبدل بما يقال عنها، لا بما هي عليه.
القراء؟
يظنون أنهم يختارون.
لكنهم في الحقيقة يسيرون داخل ممرٍ ضيِّق، صنعته خيارات لا تخصَّهم.
عنوان يُرفع، آخر يُدفن.
صورة تُضخم حدثًا، وصورة أخرى تطمر حدثًا أكبر.
هكذا يتكوَّن الرأي.. لا من الحقيقة، بل من ترتيبها.
وليس هذا ذكاءً خارقًا من الإعلام..
بل عادة قديمة تتقنها السلطة حين تكتب من وراء نافذة معتمة.
الفرق أن النافذة الآن أصغر.. وأقرب لعيوننا من أي وقت.
أما الخوارزميات فلا تحتاج إلى جملة شعرية. يكفيها أن تعرف:
ماذا لفت نظرك أمس؟
ماذا أغضبك؟
وماذا أسعدك؟
ثم تُسلّمك نسخة مُعدّلة من العالم، تُشبهك أكثر مما تشبه العالم نفسه.
ومع ذلك، يبقى شيء واحد لا يمكن السيطرة عليه:
العقل الذي يرفض أن يُقاد.
ليس العقل الذي يشكّ بقدر ما يرى.
ولا الذي يصرخ بقدر ما يفكك.
العقل الذي يسأل: «لماذا هذه القصة الآن؟ ولماذا هكذا؟ ولمن تخدم؟»
هذا العقل وحده قادر على فضح اللعبة دون أن يشنّ حربًا.
يكفيه أن يفتح نافذة أخرى.. نافذة المصادفة الحرة.
أن يقرأ مصدرين، أن يعيد ترتيب الصورة، أن يرى ما قُطع منها.
عندها يفقد الإعلام سلطته الكبرى:
سلطة تشكيل الانطباع الأول.
والمبدع؟
يستعيد مكانه في اللحظة التي يتوقف فيها الجمهور عن عبادة العناوين، ويتجه نحو النص، نحو القيمة، نحو الصدق.
حينها لا يعود الضوء رهينة اسم، بل رهينة عمل.
في النهاية، لا أحد يملك الحقيقة.
لكن هناك من يحاول احتكار الطريق المؤدي إليها.
والقلم؟
القلم لا يُمنح لأحد..
القلم يُنتزع من كل يد تحاول استخدامه لإخفاء يدٍ أخرى.
فالسؤال الذي أختم به ليس للإعلام.. بل لك أنت:
هل ما زلت تمشي نحو الحقيقة؟
أم ما زلت تمشي نحو ما عُرِض عليك على أنه الحقيقة؟