أ.د.عبدالرزاق الصاعدي
لم تكن المملكة العربيّة السعوديّة قلب العالم الإسلامي ومهبط الوحي وأرض الحرمين فحسب بل هي بلاد المنبع اللغوي ومهد العروبة؛ في أرضها ظهرت اللغة العربيّة الفصحى، لغة كتاب الله، وفيها نضج الشعر العربي الأصيل وظهرت المعلقات العشر، ونشأ بها فحول الشعراء الذين ملأوا الأرض شعرًا وإبداعًا، ومن أرضها انطلقت الفتوحات الإسلامية، وكانت اللغة العربيّة آلة الفكر والعلم ووعاء الحضارة الإنسانية عدة قرون، فكانت لغة العرب حقبة وسيطة مهمة بين العصر اليوناني والعصر الحديث.
واللغة العربيّة هي اللغة الرسميّة في المملكة العربيّة السعوديّة وفقًا للنظام الأساسي للحكم، إذ جاء في المادة الحادية عشرة من النظام الأساسي للحكم، النصّ الصريح على أنّ «اللغة العربيّة هي اللغة الرسميّة للمملكة»، وهذا النص يجعل اللغة العربيّة لغة رسميّة لبلادنا السعودية، في جميع المعاملات الرسمية، كالتعليم، والإعلام، والقضاء، والإدارة الحكومية. وجاء في المادة الأولى من النظام الأساسيِّ للحكم: «المملكة العربيّة السعوديّة، دولةٌ عربيةٌ إسلاميّة، ذاتُ سيادةٍ تامة، دينُها الإسلام، ودستورها كتاب الله وسنة رسوله، -صلى الله عليه وسلم-، ولغتُها هي اللغةُ العربيّة».
وقد أشار مجلس الشورى في وقت مبكّر من نشأته في عام 1346هـ: إلى «أنّ الواجب يقضي بأن يُعتنى باللغة العربيّة اعتناء تامًّا، لأنها اللغة الرسميّة للحكومة الحجازيّة والنجديّة، وبالأخصّ في التجارة التي تدور بين الدوائر، ويحتم لزوم المحافظة على أساليبها الفصحى». وجاء في مرسوم ملكيّ في عام 1350هـ ينص على «وجوب التكلّم بالعربيّة في أثناء المحاكمة»، ومن القرارات التي أقرّها مجلس الوزراء في عام 1374هـ «اشتراط إلمام المتقدّم على الجنسية السعوديّة باللغة العربيّة»، ومن المراسيم الملكيّة مرسوم في عام1374 ونصه: «التأكيد على أن من مهمّة هيئة الإذاعة تبسيط اللغة العربيّة الفصحى للعامة»، ومنها تعميم نائب رئيس القضاء في 2/ 8/ 1382هـ المتضمن: «الحثّ على تجنّب الأخطاء النحويّة والإملائيّة في الخطابات والصكوك الصادرة من المحاكم، ومحاسبة الجهات التي تكثر فيها الأخطاء».
لقد نشأتِ المملكةُ العربية السعوديّة مغموسة في هويتها العربيّة مكانًا وزمانًا على المستوى الرسمي وعلى المستوى الشعبي، وعلى الرغم من هُمُوم التأسيس وصوارف البناء والتنمية للدولة الفتيّة في عهد المؤسس لم نفارق هويتنا ولم يفارقْنا حُلُمُ المجمع، وهو حلم لغوي مبكّر، ففي عام 1345هـ أي قبل ما يقاربُ القرن أصدر محمد سرور الصبان كتابًا جمع فيه جملةً من الآراء والنصوص النثرية في اللغة والأدب في بلادنا، سمّاه: (الـمَعْرِض)، وكان الصبّانُ حريصًا فيه على مناقشة قضيّة أدبية مُلحّة في ذلك الوقت، طرحها على صورة استفاء، وجاء السؤالُ الرئيسُ فيه: «هل من مصلحة الأمّة العربيّة أن يُحافظَ كُتّابُها وخُطباؤُها على أساليبِ اللغةِ العربيّة الفصحى؟ أو يجنحوا إلى التطوير والتحديث؟ ويأخذوا برأي العصريين في تحطيم القيود اللغويّة.. ويسيروا على طريقة حديثة عامّة مطلقة»، كان هذا هو السؤالُ الرئيس، وكانت الإجابات مُنحازةً إلى اللغة العربيّة وشرط نقائها.
وبعد ذلك بسنوات؛ أي في عام 1371هـ؛ أي: قبل سبعين سنةً، وفي عهد الملك عبدالعزيز أيضًا، كتبَ محمد سرور الصبّان مقدّمةً لمعجم (تهذيب الصحاح) للزنجاني المتوفى سنة 656هـ الذي حقّقه أحمد عبدالغفور عطار بصحبة عبدالسلام هارون، وكان هذا العمل من الأعمال المعجمية المبكّرة في بلادنا، وأهدى الصبّانُ ذلك الكتابَ اللغويَّ إلى الملك عبدالعزيز، وقال في الإهداء: «يا صاحبَ الجلالة؛ لقد منّ اللهُ على جزيرة العرب فجعلك عليها واليًا، وللقرآن حاميًا، وللغته حارسًا، ووفّقك لأن تنصُرَ اللغة العربيّة وتُعِزَّها بما وُهِبَ لك من قدرة قادرة على النصر والإعزاز والتمكين.... وأنتم يا صاحب الجلالة أجدرُ مَنْ أُهدِي إليه هذا المعجم الذي جمع فيه مؤلفُهُ الزنجانيُّ من صحيح العربيّة ما يُوثقُ به، ويُطمأنُّ إليه، وأضاف إليه محققاهُ في حواشيه ما ندرَ من معارف اللغة وغرائب التحقيق وفرائد التأصيل، ما جعل هذا المعجم العربيَّ جديرًا بأنْ يُرفعَ إلى مقامكم الكريم، فأنت مَلِكُ العرب، وحارسُ العربيّة، ومُعِزُّ العروبة ومحيي السنة».
ثم نرى بعدَ أربع سنوات؛ أي: في سنة 1376هـ الموافق لسنة 1956م عملًا لغويًّا كبيرًا تلقتْهُ الأمةُ بالسرورِ والتَّرحاب وهو تحقيقُ (معجم الصحاح) للجوهري بجهود محقّقه السعودي أحمد عبدالغفور عطار، ولعلّ الأجمل في هذا العمل أنّ من كتبَ مقدمتَه هو الملكُ فهد بنُ عبدالعزيز حين كان وزيرًا للمعارف في عهد الملك سعود، وأشارَ الملكُ فهد في مقدّمته إلى القيمة اللغويّة الكبيرة لمعجم الصحاح للجوهريّ، وإلى الجَهد الكبير الذي بذلَهُ المحقّقُ في التحقيق، وامتدح مقدمة العطار التاريخية عن المدارس المعجمية، وهي مقدمةٌ تعدلُ كتابًا مستقلًا.. قال الملكُ فهد: «والحقُّ أنَّ هذا الكتابَ ومعَه مقدمةُ العطار هو أوّلُ بحثٍ علميٍّ في بلادِنا، يقومُ على قواعدَ مُحكمة، ومنهج علميّ دقيق تشاركُ به بلادُنا شقيقاتِها، فليس في هذا البحث فضولٌ، بل كلُّه بحثٌ وعلم، وأُسلوبُ المؤلّف في مقدّمته أسلوبٌ عربيٌّ رصين وبيانُهُ آيةٌ في الروعةِ والجمال، وحسبُنا أنّه أسلوبُ العطار وبيانُ العطّار». انتهى كلامُ الملكِ فهد، عليه رحمةُ الله.
ذاك شيءٌ من البدايات ووضع الأساس اللغويّ، في دولتنا الفتيّة حينئذ، واستمرت عنايةُ ملوك المملكة العربيّة السعوديّة باللغة العربيّة وآدابها، فظهر في بلادنا أعلامٌ في اللغة والأدب وتحقيق التراث، ومن أبرزهم: حمزة شحاتة، وعبدُالقدوس الأنصاري، ومحمد حسين زيدان، وحسين سرحان، ومحمد حسن عوّاد، وأحمد الغزاوي، ومحمد علي السنوسي، وحمد الجاسر، وعبدالله بن خميس، وعبدالله بن إدريس، وأبو تراب الظاهري، وعبدالله عبدالجبّار، وطاهر زمخشري، ومحمود عارف، وعبدالكريم الجهيمان، ويحيى المعلّمي، وعبدالعزيز الخويطر، وغيرُهُم. ويمكن عدُّهم الجيلَ الأول للثقافة في بلادنا. وكان لهم نتاجٌ وفيرٌ في اللغة والأدب والثقافة.
ثم أعقبتهم أجيالٌ من اللغويين والأدباء، وأكثرُهم من الأكاديميين وأساتذة الجامعات، وهم اليوم بالمئات، يشاركون في الحركة اللغويّة والأدبية في المملكة.
فكان للسعودية مكانة خاصة في اللغة وآدابها، وعلى الرغم من تأخّرها في إنشاء مجمع لغوي لم تغبْ عن عضوية المجامع اللغويّة العربيّة؛ فقد مثّلها فيها أعلامٌ كبارٌ نعتزّ بهم، أقدمُهم حمد الجاسر، وكان انضمامه لمجمع القاهرة عضوًا عاملًا بتاريخ 1378هـ/ 1959م، وجاء بعده ثلاثة أعضاء دخلوا المجمعَ (بعضوية المراسلة) بتاريخ 1396هـ/ 1976م، وهم: عبدالله بن خميس، وحسن القرشي، وعبدالعزيز الرفاعي، وبعد ذلك انضمّ كلٌّ من: يحيى المعلّمي، وأبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري، وأحمد الضبيب، ومحمد الربيّع، وعوض القوزي، وعبدالعزيز بن عثمان التويجري، ثم عبدالله العثيمين وعائض بن بنيّة الردادي، عبدالله عسيلان. وقدّمَ هؤلاء الأعضاء صورةً زاهية عن أصالة البحث اللغويّ والتاريخيّ والأدبيّ في بلادِنا السعوديّة. ولن أتحدّث عن مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربيّة، إذ له فصل خاصّ في هذا الكتاب.
وكان حُكّامُ هذه البلاد يرون أنَّ حفظَ اللغة من الدين ويَرونَها هُويةً ووِعاءَ ثقافةٍ وفكر، قال الملك سلمان: «إنّ لغتَنا العربيّة لغةُ حضارة وثقافة، وقبل ذلك لغةُ الدين القويم، ومن هنا فإنّها لغةٌ عالميةٌ كبرى، شملتْ المعتقدات والثقافات والحضارات، ودخلتْ في مختلف المجتمعات العالمية، وهي مثالٌ للغة الحيّة، التي تؤثّرُ وتتأثّر بغيرها من اللغات».
لقد كانت اللغةُ العربيّة ولم تزل حاضرة في وجدان ملوكنا وفي أقوالهم وأعمالهم، منذ عهد المؤسس، -رحمه الله-، فأُنشئت كلياتُ اللغة العربيّة في الرياض ومكة والمدينة وغيرها، وظهرتْ أقسام اللغة العربيّة والأدب والبلاغة، في جامعاتنا السعوديّة، وفي تلك الأقسام حصل كثيرٌ من شباب هذا الوطن وجمعٌ طيّب من الطلاب الأجانب المبتعثين لجامعاتنا على التعليم الأكاديمي وتدرّجوا حتى بلغوا أعلى المراتب الأكاديمية، وألّفوا وشاركوا في تحقيق التراث.
وكان اليوم الأول من شهر سبتمبر من عام 2020م يوما مشهودًا، إذ صدر قرار مجلس الوزراء القاضي بإنشاء مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربيّة، ليكون تتويجًا لجهود المملكة العربيّة السعوديّة في سعيها لخدمة اللغة العربيّة وترسيخًا ولدورها المؤثّر عالميًا، مع الحفاظ على مكانتها عند المسلمين بوصفها لغة القرآن الكريم وتحفيزها المجالات الثقافية والعلميّة والتقنية.