محمد بن يحيى القحطاني
لم يكن أحمد أبو دهمان كاتبَ حكايةٍ بالمعنى المتداول، بل كان كاتبَ سؤال. لم يتعامل مع السرد بوصفه ترتيبًا للأحداث، بل باعتباره امتحانًا للوجود: كيف يُصاغ الإنسان حين يُقتلع من تربته الأولى؟ وأيّ معنى يبقى حين يتقدّم الزمن على الذاكرة خطوةً خطوة، دون أن يلتفت؟ من هذا القلق النبيل الذي وُلدت نصوصه، ومنه تشكّل صوته المختلف.
أحمد أبو دهمان ينتمي لقريتي «آل الخلف»، وخلال سنواته الأخيرة ازداد حنينه لها وتمسكه بكل تفاصيلها، وفي عالمه، لم تكن القرية اسمًا يُنادى، بل ذاكرةً تفكّر، كائنًا جماعيًا يختزن أخلاقه في تفاصيل العيش اليومي: في مواسم المطر، في صمت الجبال، في العلاقات التي لا تحتاج إلى لغة لتُفهم. هناك، حيث تتداخل الطفولة مع الحكمة، وحيث الزمن دائري لا مستقيم.
صاغ أبو دهمان مشروعه السردي الأشبه بمحاولة إنقاذٍ أخيرة لما يتبقّى من المعنى قبل أن يبتلعه التحوّل.
كانت الجبال في كتابته أكثر من تضاريس؛ كانت فكرة. فكرة الثبات في عالمٍ متحوّل، وفكرة الشهادة الصامتة على تعاقب الأجيال.
وحين كتب عن الرحيل، لم يكتبه بوصفه انتقالًا في المكان، بل كتحوّل في الوعي: اغترابٌ لا يُقاس بالمسافة، بل بدرجة انقطاع الإنسان عن صوته الأول، لذلك جاءت أعماله مشبعة بسؤال الانتماء، لا بوصفه شعارًا، بل باعتباره عبئًا أخلاقيًا.
لم يكن السرد عند أحمد أبو دهمان استعادةً رومانسيّة للماضي، بل تفكيكًا هادئًا له. كان يدرك أن الذاكرة، إن لم تُمسَك بحذر، تتحوّل إلى سجن. لذا كتبها كما يُمسَك الضوء: لا يُقبَض عليه كاملًا، ولا يُترَك ليضيع. وفي هذا التوازن الدقيق بين التذكّر والنسيان، تشكّلت فرادة نصّه، أما اللغة، فكانت أعمق حيله الفلسفية، لم تُثقل المعنى بالمجاز، ولم تُفرغه بالتبسيط.
كانت لغة تعرف أن الحقيقة لا تُقال دفعةً واحدة، بل تُلمَح، وأن الصمت أحيانًا أصدق من البيان. لذلك بدت جمله كأنها آتية من زمنٍ بطيء، زمنٍ يسمح للفكرة أن تنضج، وللألم أن يتحوّل إلى معرفة.
برحيل أحمد أبو دهمان، لا يفقد الأدب كاتبًا، بل يفقد طريقةً في النظر إلى العالم؛ طريقة ترى في السرد فعلَ مقاومة ضد العجلة، وضد اختزال الإنسان في وظيفته أو لحظته.
لقد كان من القلائل الذين فهموا أن الكتابة ليست إجابة، بل مسؤولية إبقاء السؤال حيًّا.
سيبقى أبو دهمان حاضرًا ما دامت هناك قرية تُستعاد لا لتُمجَّد، بل لتُفهم، وما دام هناك جبلٌ يُقرأ لا بوصفه صلابة، بل بوصفه ذاكرة، وما دام هناك قارئ يبحث في الأدب عن معنى لا يشيخ، ذلك هو الخلود الوحيد الذي يليق بكاتبٍ مثله: أن يتحوّل إلى ضميرٍ سرديّ، يُنصِت أكثر مما يتكلّم، ويُضيء دون أن يدّعي النور.