أ.د.عمر بن عبدالعزيز المحمود
ثمّة أشياء لا نُلقي لها بالاً حين تمرُّ، لكنها تعود بعد سنوات كأنها تحمل حقيقةً عنَّا أكثر مما تحمل ذاكرتنا، وكأنَّ القلب، هذا الصندوق الصغير الذي لا نرى ما بداخله، يعرف كيف يخبّئ ما يريد، ويمحو ما يريد، ويترك في ثناياه تفاصيل لا نكتشف قيمتها إلا حين نتوقف يوماً أمام شيء لم نعد نعرف لماذا احتفظنا به، قطعة ورق باهتة، تذكرة سفر قديم، ورقة سقطت من دفتر مدرسة، زهرة جافة بين صفحات كتاب.. أشياء تبدو تافهة بوزنها، لكنها ثقيلة بذاكرتها، تشبه تلك الأحمال اللطيفة التي يتجول بها القلب دون أن يفصح عنها.
الغريب في هذه الأشياء أنها لا تحمل قيمتها من ذاتها، بل من لحظةٍ تلتصق بها، من لحظةٍ عابرة، لكنها تلمس شيئاً في الداخل لا يزول، ربما يكون هذا الشيء ضوءاً مرَّ على الروح، أو كلمةً لم تُقل، أو بدايةَ طريقٍ ظننّا أنه سيكتمل، أو نهايةً لم نستعدّ لها، هي تفاصيل صغيرةٌ جداً، غير أنها تُصرّ على البقاء؛ لأن القلب لا يقيس الأشياء بحجمها، بل بعمق ما تحمله من أثر.
ومع أن الإنسان يتغيّر ويكبر ويبدو عقلانياً أكثر، إلّا أن قلبه يظل وفيّاً لهذه التفاصيل، يكفي أن تقع يدُك على ورقة خزّنتها قديماً حتى يعود صوتك القديم، أو رائحتك القديمة، أو خيالاتك الأولى، كأن القلب يحتفظ بنسخة أقدم منك، نسخة كانت أكثر صدقا، وأكثر دهشة، وأكثر هشاشة، وربما لا نحكي لأحد عن هذه النسخة؛ لأنها خرجت من الزمن ولم تخرج منا.
ليس كل ما نحمله في داخلنا حزناً، ولا كل ما نتوارى عنه وجعاً؛ هناك مشاعر معلَّقة في المنتصف، مشاعر لا نريد أن ننسى أنها حدثت، ولا نريد أن نتأذَّى منها أيضاً، هي أشبه بممرّ صغير بين غرفتين في القلب، لا يتوقف فيه أحد، لكنه موجود لكي يذكِّرنا بأن الحياة ليست أحداثاً كبرى فقط، بل لحظات دقيقة، لا يسمع صوتها إلا من يعرف الإصغاء لنبضه.
لعلّ أجمل ما في هذه (الأثقال الخفيفة) أنها لا تطلب منا شيئاً، لا تريد اعتذاراً، ولا تبريراً، ولا حتى استرجاعاً، يكفيها أن نراها، وأن نمرّ عليها بلمحة امتنان، فهناك أشياء قاسية نتركها عمداً، وأشياء جميلة تفلت منّا بلا قصد، وأشياء مختلطة لا نعرف كيف نُسميها؛ هل هي حنين؟ هل هي ندم؟ أم أنّها ببساطة شاهدٌ على ما كنّا عليه؟ لهذا نتركها كما هي، كعلامة طريقٍ لا نريد أن نمحوها تماماً، ولا نريد أن نتبعها مرة أخرى.
وحين نسمي هذه التفاصيل (أثقالاً) فلأنها تشغل حيّزاً في القلب، لكنها مع هذا الثقل المكين لا تؤذي، ثقلها يشبه ثقل البطانية في ليلة باردة، دافئ مختزن، يمنحك نوعاً من الأمان الداخلي، هي أشياء لا تبكي، لكنها تجعل العين ألمع، لا تجرح، لكنها تذكّر بما جُبر، لا تعود، لكنها لا تغادر؛ ولهذا يستحيل على أحد أن يشرح لماذا يحتفظ بشيءٍ ضاع معناه وبقي أثره، الأثر دائماً هو الجانب الذي لا يفهمه العقل، لكنه يستقرّ بسهولة في القلب.
في لحظة ما، حين تكون الحياة مرهقة، وضوضاء الخارج أعلى من طاقتك، يكفي أن تمسك شيئاً صغيراً من هذه البقايا ليتغير مزاج اليوم، كأنها تشبه طريقة القلب في أن يقول لك: ما زال هناك شيء نقيٌّ فيك فلا تضيّعه، قد تكون ورقة، أو صوتاً مسجّلاً قديماً، أو صورة كانت تبدو عادية وقت التقاطها، لكنها أصبحت الآن تاريخاً شخصياً لا يشاركه فيه أحد.
هذه (الأثقال الخفيفة) ليست رومانسية بالمعنى الساذج، ولا حنيناً مجروحاً، بل هي جزء من هويتنا الداخلية؛ من المسار الذي مشيناه، من أنفسنا التي لم نعد نعيش فيها، لكنها تعيش فينا، وربما لهذا السبب تستهوينا؛ لأنها لا تعيد إلينا الماضي، بل تعيد إلينا أنفسنا حين كنّا في الماضي، وكل ما يعيد الإنسان إلى نفسه يملك قوة لا تُقاوم، خاصةً عند مَن يعرف أن القلب ليس دفتر وقائع، بل دفتر ظلال وأصوات وأسماء صغيرة.
مهما اختلفت أعمارنا وتجاربنا، يبقى في القلب مكاناً لهذه التفاصيل التي لا يراها أحد، لكنها تضيء الداخل كلما ضاق، فالأشياء التي تحملها الذاكرة ليست عبئاً، بل طريقة للحفاظ على خيط إنساني دقيق بيننا وبين ما كنّاه، طريقة ليبقى القلب (خفيفاً) مع كل ما حدث، و(ثقيلاً) بما يكفي ليظل إنسانا.