حامد أحمد الشريف
لا أظن أنَّ هناك من أبدع في وصف السلوكيات الإنسانية بأبعادها المختلفة، الاجتماعية، والفكرية، والفلسفية، والنفسية والعاطفية بأدق تفاصيلها كما فعل «نيكوس كازانتزاكي»، ما يعني أن كل من يقرأ رواية زوربا غالبًا ما تنفذ إلى داخله من عمقها الإنساني بعيدًا عن بنيويتها الرائعة وتقنيات السرد الإبداعية التي نجح المؤلف في استخدامها وتحدثنا عنها في المقال السابق. والواقع أن «زوربا اليوناني» هي رواية إنسانية بامتياز تتعالق داخلها الصراعات المتعددة بكل تفصيلاتها الدقيقة، ولا يقتصر ذلك على أبطال العمل، الرئيس، وزوربا، بل ينسحب على الجميع، إذ إن كل من شارك في هذه الصراعات وإن بومضات خاطفة، ترك أثرًا جميلًا يشير إلى بعد إنساني حياتي معين؛ يستوقفنا ويستنهض مكامن الشعور داخلنا، ويدفعنا للتفكير بعمق في هذه الصراعات والحوارات العميقة المغلفة بالخبرات الحياتية المكثفة.
الجميل في تناول المؤلف للإنسان أنه لم يخضعه لفلسفة معينة من تلك الأفكار والفلسفات، التي تزامنت مع كتابة النص كالعبثية لألبير كامو أو الوجودية لجان بول سارتر، وإنما أحضرَ لنا شخصية مركبة فكريًا وفلسفيًا تجمع بين كل المتناقضات، إذ إن سلوكيات زوربا تحتمل كل هذه الفلسفات مجتمعة ولا تتبنى أيًا منها، فيمكن النظر إليها بسهولة، من منظار العبثية فهو لا يهتم بالحياة على الإطلاق، ولا يتفاعل إلا مع اللحظة التي يعيشها فقط، وهي ذات الفكرة التي يروج لها ألبير كامو حيث لا قبل ولا بعد، وقد ذكر زوربا ذلك صراحة في قوله ص349: (وفي هذه اللحظة. أقول: ما الذي تفعله في هذه اللحظة يا زوربا؟ أنا نائم. حسنًا نم جيدًا. ما الذي تفعله في هذه اللحظة يا زوربا؟ أنا أعمل. حسنًا، اعمل جيدًا. ما الذي تفعله في هذه اللحظة يا زوربا؟ أنا أقبّل امرأة. حسنًا قبّلها جيدًا، يا زوربا! وانس كلّ ما تبقّى وأنت تفعل هذا؛ لا يوجد شيء آخر على الأرض، سوى هي وأنت! هيّا، واصل الأمر!) انتهى كلامه.
ومع أن هذه تعد فلسفة عميقة تتعلق بالإتقان الآني وعدم التفكير في الماضي أو التطلع للمستقبل إلا أن زوربا أو المؤلف الذي أجرى أفكاره ومعتقداته الفلسفية على لسان أحد أبطاله لم يطابق ميرسو بطل الغريب في سلوكياته، إذ إن ميرسو تعامل مع اللحظة الآنية بعبثية فظهر مفصولًا تمامًا عن واقعه، لا تستثيره الصراعات على الإطلاق، ولا يبدي أية ردة فعل حيالها، في وقت ظهر زوربا متفاعلًا بشكل كبير مع كل الصراعات يؤثر فيها ويتأثر بها، ما يعني أننا أمام نمط سلوكي مختلف رغم التشابه السطحي، وفي ظني يعد ذلك براعة كبيرة في صناعة النموذج الإنساني المتخيَّل.
وإذا ما ذهبنا باتجاه الوجودية نجد أنهم يعتنقون فكرة صنع الإنسان لذاته واتخاذ قراراته بنفسه بمعزل عن أي مؤثرات خارجية، دينية أو اجتماعية. أي أنهم يعتنقون الحرية المطلقة في اتخاذ القرارات المصيرية لكنهم لا يهربون من دفع الثمن أو ما يسمونه القرارات الوجودية مدفوعة الثمن، وهذه نجدها أيضًا لدى زوربا، فهو لا يحتكم لأي معيار أخلاقي أو ديني أو اجتماعي في قراراته، ولديه جرأة كبيرة على اتخاذ أصعب القرارات في لمح البصر ودون أدنى تردد، ولكنه، لا يتطابق معهم في السببية، إذ إنه يقوم بكل ذلك بفوضوية ولا يبحث عن صنع ذاته، كما أنه لا يدفع ثمن هذه القرارات ولا يحاسب نفسه عليها. ويمكن لنا رؤية كل ذلك في قوله ص162: (وقلتُ لنفسي: «هذه هي السعادة الحقيقية: ألَّا تملك طموحًا وأن تعمل كحصان وكأنّك مسكون بأنواع الطموح كلّها. أن تعيش بعيدًا عن البشر، ألاّ تحتاجهم، ومع ذلك تحبهم. أن تشارك في احتفالات عيد الميلاد وبعد الأكل والشرب جيدًا تهرب وحدك بعيدًا عن الشراك كلّها، أن تملك النجوم فوقك، الأرض إلى يسارك، والبحر إلى يمينك: وأن تدرك فجأة أن الحياة انجزت في قلبك معجزتها الأخيرة: صارت حكاية خرافية». انتهى كلامه.
ونستطيع ببساطة أن نستخلص من هذا القول أنه بالفعل يصنع ذاته بطريقته ويتخذ كثيرًا من القرارات الوجودية بمعزل عن أي محددات، لكنه لا يهتم بتبعاتها، ويعد هذا اختلافًا جوهريًا وكبيرًا عند أصحاب هذه المدرسة الفلسفية، يجعلنا نخرجه من الوجودية ونضعه في قالب مختلف، وبالتالي نستطيع تكرار ما قلناه سابقًا بأن سلوكياته تختلف عن الوجوديين رغم التشابه السطحي، وبالتالي فإن المؤلف نجح بالفعل في خلق واقع إنساني مختلف لا يتشابه مع أي من المدارس الفلسفية الأخرى رغم التشارك في بعض الصفات.
إن هذا التكوين الإنساني الجميل، كان من أهم مواصفاته الصدق والتلقائية والبساطة المتناهية والإقناع الكبير، وذكاؤه التصويري الذي يدفعك للمشاركة في رتق الفجوات السردية المتعمدة، والإسهام في صنع الحدث وتوقعه، وتمني النهايات التي تتفق مع الحالة الوجدانية التي تعيشها، وأهم ما ميز هذا التعاطي الإنساني التبادلي، أنه لم يقدم لنا نماذج رائعة أو سيئة، بل قدم أنموذجًا واقعيًا مركبًا أقرب ما يكون للحياة البسيطة التي يعيشها كل قارئ، وترك له إذهالك بتنوعاته الانفعالية، وبقدرته على فلسفة كل قراراته وتبريرها رغم جموحها وتجاوزاتها الدينية والأخلاقية، وإقناعك بها، أو على الأقل بحتمية ارتكابها من قبل صاحبها، والأهم من ذلك كله ممارسة زوربا - المعني بكل هذه التجاوزات- الحياة بطريقته دون وضع أي اعتبار للمحددات الأخلاقية والدينية والاجتماعية وحتى السياسية.
هذا الانفلات السلوكي كما سنشاهد لاحقًا، لم يقتصر على زوربا وحده بل شاركه الجميع بمن فيهم الرئيس الذي لم يكن هدوءُه مستساغًا إذ إن الضرر أصابه مما يفعله زوربا وخسر كل ماله بسببه، ومع ذلك بقي على محبته واستمتاعه بمصاحبته له، وبالتالي فقد غفر له كل تجاوزاته، واقترب منه كثيرًا حتى انفضاض الصراع ومغادرة الجميع لساحة السرد، والرئيس لا يزال على محبته وافتتانه بشخصية زوربا الاستثنائية، وهذا أيضًا سلوكٌ منفلت، إذ كان عليه تقديم مصلحته الشخصية عِوضًا عن السير خلف رجل كبده كل هذه المشاق والخسائر.
وما يمكن قوله إن العلاقات الإنسانية كانت غاية في الجمال والعمق، رغم تنوعها وغرابتها وقسوتها أحيانًا، لكنك لا تملك غير التماهي معها، والانفعال بشقيه الإيجابي والسلبي، والذهاب باتجاه الضحك أو الحزن من بعضها، ولعل أقوى هذه المشاهد تعلق بالأرملة، بعد أن تواطأ أهل القرية على قتلها، واللافت هنا أن الأمر تم أمام نظر الرئيس الذي يصف المشهد بجبن قائلًا ص316: (تبعته لاهثًا. كان الجميع حول الأرملة. والصّمت يخيّم ثقيلًا حتّى أنّه كان بوسعكَ سماع نفَسِ الضحية المختنق.
رسم «مانولاكاس» علامة الصليب، خطا إلى الأمام، رفع السكين، صاحت العجائز المستندات إلى الحائط في استمتاع. وسحبت الشابات مناديلهن وغطّين وجوههنّ.) انتهى كلامه. ويظهر هنا أنه مارس السلبية المقيتة بكل صورها وأشكالها، فلم يكتفِ بالتخلي عنها، بل ذهب لأبعد من ذلك في وصف ما حدث بأدق تفاصيله وكأن الأمر لا يعنيه؛ رغم التقارب العاطفي بينهما وقدرته على حمايتها، اختار الصمت ومهادنة القرويين المتوحشين، إلى أن انشقت الأرض عن زوربا وحضر في الوقت المناسب كما يظهر في ص317: («باسم عدالة الله! قال العجوز «مافراندوني»، ورسم علامة الصليب. ولكن في تلك اللحظة بالذّات دوّى صوت من خلفنا.
«أنزل سكّينك أيها المجرم»
استدار الجميع منذهلين. رفع «مانولاكاس» رأسه: كان زوربا ينتصب أمامه مؤرجحًا ذراعيه وهو يصرخ بغضب:
ألا تشعرون بالعار؟.... إلخ) انتهى كلامه.
وتجليات هذا الموقف العظيم في البعد الإنساني، أن زوربا الذي يصفه الرئيس بالجاهل، كان إنسانًا بحق وحاول الدفاع عنها من باب الإنسانية رغم عدم ارتباطه بها، بينما وقف قارئ الكتب المثقف مكتوف الأيدي، مما يشير إلى أن التعليم الذي تشرف عليه الحياة ويدار في الأزقة والحواري هو التعليم الحقيقي، بينما الكتب لا يمكن لها خلق انسانٍ بحق، وهذه نظرية تحترم فأهل الكتب والمنظرين غالبًا ما يكونون معزولين في أبراجهم العاجية، بينما يعيش البسطاء الحياة بحلوها ومرها ويتكيفون معها، وهم من يعمرونها ويجتهدون لتقويم اعوجاجها، ذلك ما نجح فيه زوربا كثيرًا وإن فشل هذه المرة.
ذُكرَ هذا المعنى صراحة من زوربا ص 92 يقول: («إنّ هذا الرجل لم يذهب إلى المدرسة فلم تنحرف دماغه! عاش التجارب من كلّ لون فانفتح ذهنه واتّسع قلبه أكثر دون أن يفقد شيئًا من شجاعته البدائيّة.) انتهى كلامه.
ويظهر من هذا الاستشهاد أن لدى زوربا قناعة كبيرة بإفساد التعليم للإنسان على مستوى الممارسات الحياتية، وهي القناعة التي يؤمن بها أغلبنا وتتعلق بقيمة التجارب الحياتية المباشرة وتقويتها للإنسان ومنحه القدرة على اتخاذ القرارات وقيادة انفعالاته، فيما يعجز التلقين عن ذلك.
وهذا المعنى نجده أيضًا في حكمة ساقها زوربا، وهو يقلل من نواتج التعليم، ويعلي من قيمة التجارب الإنسانية المباشرة. ص282: (ولكن لو تفكّر فقط للحظة في الأشخاص الذين يؤلفون الكتب! من يشبهون؟ بف! الكثير من أساتذة المدرسة. ما الذي يعرفه هؤلاء عن النساء، أو عن الرجال الذين يركضون وراء النساء؟ طبعًا لا شيء!» انتهى كلامه.
ولقد كان المؤلف فيما يبدو مؤمنًا بالقيمة التي يمثلها الإنسان البسيط الذي تولت الحياة تعليمه وتثقيفه وإمداده بالخبرات اللازمة، لذلك لم ينفك طوال العمل من السعي لإثبات هذه القيمة، وأظنه نجح في ترسيخ هذه الفكرة، فمن يتابع مسيرة زوربا يجد كل ذلك متحققًا ومقنعًا أيضًا، وإن تفاوتت قيمة هذه المواقف ومستخلصاتها الفلسفية، كقوله ص 142:(لقد انحدرتُ كثيرًا حتّى أنّني إذا اضطررتُ للاختيار بين الوقوع في حب امرأة وقراءة كتاب عن الحب، اختار الكتاب). انتهى كلامه.
في مقابل قوله ص161: (إذا تناولتَ مُكبّرًا ونظرت إلى المياه التي تشربها، على حدّ عبارة مهندس قالها لي في أحد الأيام، فسوف ترى هذه المياه مليئة بالديدان الصغيرة وتمتنع عن الشرب. لن تشرب وستتلوى من العطش. حطِّمْ مُكبّرك، أيها الرئيس، وستتلاشى الديدان الصغيرة وتستطيع أن تشرب وتنتعش!). انتهى كلامه.
هذه القيمة التي احتملها حديث زوربا وخبراته التي ما فتئ ينقلها إلى الرئيس، تتجلَّي في قصة شرنقة الفراشة حين قام - حسب روايته - بتهيئة الظروف التي ساعدت على كسر الشرنقة وخروج اليرقة، حينما استفزه عجزها عن النهوض بهذا الأمر وحدها، وكان يظن أنه بذلك يساعدها على بدء حياتها، بينما تسبب بصنيعه في موتها، إذ إنها لم تكن مهيأة لمواجهة الحياة في ذلك التوقيت. هذه القصة الملهمة نجدها في ص165 وأتت لحظة التنوير التي أرادها في نهاية حديثه مع الرئيس ص166يقول: (لقد أجبرت أنفاسي الفراشة على الظهور مفتّتةً كلّها قبل أوانها، فصارعتْ بيأس وبعد بضع ثوانٍ نفقتْ في راحة يدي.
أعتقد أن جسدها الصغير هو أشدّ ما يثقل على ضميري. لأنّ انتهاك قوى الطبيعة العظيمة -وأنا أدركُ ذلك جيّدًا اليوم – خطيئة أخلاقية قاتلة. يجب ألا نستعجل. ألَّا نفقد الصبر، وأن نطيع الإيقاع الأبدي بكلّ ثقة.) انتهى كلامه.
ولعلي أنوه هنا أن المؤلف فسر ووعظ كما يلاحظ، ولم يترك المعاني المضمرة داخل الحكاية لذكاء وفطنة القارئ، ومع ذلك في ظني لم يخرق قوانين السرد، ولم يقلل من قيمة مخطوطته، بل كان على العكس من ذلك بسبب ذكائه في التوظيف، إذ إن كل ما قاله زوربا كان مبررًا، بالنظر إلى جهله مقارنة برئيسه المثقف، واستدعى ذلك بيان المقاصد والحكمة التي انطوت عليها حكايته، حتى لا يُظن أنها رمية من غير رامٍ، والواقع أن زوربا الإنسان أُثقل بالخبرات الحياتية التي يعيها جيدًا ويتعامل معها بطريقة رائعة ويُضَمِّنها كل حكاياته الشفاهية.
وحتى يؤصل المؤلف هذا المعنى أتى بحالة إنسانية مختلفة تمامًا وسلط عليها عدسته الإبداعية، وأعني بذلك شخصية «ميميكو» الذي وصف بأنه مهرج وأبله من أبناء قريته. وأجرى على لسانه الحكمة كي نعي الفرق بينهما، يقول ص139: (سأل زوربا متنهّدًا: «هل تحب الأرملة يا ميميكو».
ضحك ميميكو.
«ولماذا يجب ألَّا أحبها يا صديقي؟ ألم أخرج من بالوعة كالجميع؟».
قلتُ منذهلًا: «من بالوعة؟ ما الذي تعنيه يا ميميكو؟»
«حسنًا من أحشاء الأم». انتهى كلامه.
وهكذا نرى الفرق بين حديث كليهما، أي الحكمة العفوية غير الموجهة، والحكمة الإرادية الموجهة، ويمكن اعتبار هذه الشخصية بعدًا إنسانيًا ثالثًا احتاجته هذه الملحمة، ليس على سبيل إظهار قيمة زوربا وحسب، وإنما توظيفها لإيصال معان أكبر من ذلك بكثير، وأعني الغوص في الطبائع والسلوك الإنساني، وقد ظهر بالفعل اهتمام المؤلف ببناء شخصية هذا الغلام، فلم يكن هامشيًا في السرد رغم صغر المساحة التي خصصت له، إذ وظفه بالفعل لتحقيق مستهدفات فهمية ذات قيمة عالية، وجعل منه صورة أخرى للإنسان الذي لم يفقد إنسانيته رغم فقده لجزء من عقله، وكان أكثر وفاءً من أصحاب العقول، يمكننا رؤية ذلك في قول الرئيس ص 328: (كانت حديقة الأرملة المهجورة تعبق مقفرة. ورأيتُ «ميميكو» يجلس منطويًا على نفسه أمام المنزل ويئن ككلب جريح. بدا شديد النحول؛ عيناه محمرّتان وغائرتان في محجريهما. التفت حوله وحين رآني التقط حجرًا.) انتهى كلامه.
وبالعودة إلى زوربا والقيمة الإنسانية التي مثلها، سأكتفي بنقل بعض الحكم والفلسفات التي أبهر بها الرئيس من دون تعليق، كقوله ص97: (صحيح أنّنا حين نعيش سعادة ما، نعاني صعوبةً في الوعي بها، ولا ندرك أنّنا كنّا سعداء إلا بعد أن تتبخّر السعادة وتتحوّل إلى ذكرى.) انتهى كلامه. وقوله ص111: (بشرفي، كلما تقدّمتُ في السنّ صرتُ أكثر وحشية! كذبَ من قال إنّ التقدم في العمر يجعل الإنسان رصينًا!) انتهى كلامه.
وقوله ص119: (إن المرأة ينبوع عذب. تنحني فوقه، فتشاهد صورتك معكوسة وتشرب؛ تشرب إلى أن تطقطق عظامك. ثم يأتي آخر، ويكون ظامئًا، أيضًا: ينحني فوقها، يرى صورته ويشرب. ثم يأتي ثالث... نبع عذب، هذه هي المرأة، وهي بدورها كانت كذلك...) انتهى كلامه.
وقوله أيضًا ص283: (أين سأعثر على الوقت كي أقودَ قلمًا بائسًا؟ هكذا يقع العمل في أيدي المؤلفين! كل أولئك الذين يعيشون بالفعل الغاز الحياة لا يملكون وقتًا للكتابة، وكل أولئك الذين يملكون الوقت لا يعيشونها! أترى؟»). انتهى كلامه.
وقوله ص349: (إنّ المرأة الحقيقية - والآن أستمع لهذا لعلّه ينفعك - تتمتّع باللّذة التي تمنحها للرّجل أكثر من تمتّعها باللّذة التي تأخذها منه».) انتهى كلامه.
وبعد فإن الأبعاد الإنسانية الثلاثة التي عرجنا عليها، لم تكن نهاية المطاف، فهناك نمط إنساني رابع أتى به المؤلف ووظفه لإظهار الأبعاد المختلفة لشخصية زوربا، وأعني بذلك رجال الدين، وكان قد أتى بنماذج مختلفة منهم على أحوال شتى، كمن فقد عقله نتيجة إيمانه بالسرديات الدينية غير الواقعية، وأعني بذلك القس «زكريا» المصاب بالفصام وروحه الملعونة «جوزيف» كما يصفها، ومنهم من كان مجرمًا يتدثر برداء الدين كرئيس الدير، ومنهم من كان بين ذلك قواما، وحمل شيئًا من الحكمة والفلسفة بجانب اشتغالاته الدينية، وأعني بذلك الأسقف العجوز الذي لم يشفع له كل ذلك كي ينجو من نقمة زوربا، إذ كان يمقتهم جميعًا، وأتت السردية لتُظهرَ كثيرًا من التجاوزات التي مارسها بحقهم ومثلت بالفعل التوجه العام في أوروبا عندما أُسقطت هيبة الكنيسة وتجرأ الجميع على رجالها، وناصبها الفلاسفة والمفكرون العداء، نرصد كل ذلك في حوار زوربا مع الأسقف العجوز الذي أخذ يستعرض نظرياته الثلاث في قوله ص266: (إنَّ أوّل نظرياتي هي هذه: شكل الأزهار يؤثر في لونها؛ ولونها يؤثر في سماتها...إلخ). وقوله: (وهذه نظريتي الثانية: إنَّ كلّ فكرة لها تأثير حقيقيّ لها أيضًا وجود حقيقي... إلخ) وقوله: (إليك نظريتي الثالثة: تمّت أبديّة ما في حيواتنا العابرة، ولكن من الصعب أن نكتشفها وحدنا... إلخ) انتهى كلامه. وكان زوربا قد سخر منه حسب وصف الرئيس ص267: (قفز زوربا من زاويته.
صاح: «أنا أيضًا عندي نظرية رابعة!»
نظرت إليه بقلق فيما التفتَ إليه الأسقف.
«تحدث يا بنيّ، وليبارك الله نظريتك. ما هي؟»
قال زوربا بجدية: «إن اثنان زائد اثنين يساوي أربعة».
نظرَ إليه الأسقف منذهلًا.
تابع زوربا: «ونظرية خامسة أيّها العجوز: إن اثنين زائد اثنين لا يساوي أربعة. وبإمكانك يا صديقي أن تختار التي توافقك!»
تلعثم العجوز وخصّني بنظرة متسائلة: «أنا لا أفهم».
قال زوربا منفجرًا من الضحك: «ولا أنا!». انتهى كلامه.
وهكذا يمكننا في تناولنا للبعد الإنساني للرواية الإشارة أيضًا إلى وقفات مهمة تضمنها العمل وحملت مغازي قيِّمة كظهور المقتنيات الشخصية للإنسان وقت موته ودلالاتها الفلسفية العميقة، يقول ص330: (وكان حذاؤها المهترئ المصنوع من الجلد اللمّاع ينتأ من تحت السرير جاعلًا قلبك يتحطّم. بل لقد كان منظر الحذاء أكثر تأثيرًا من حالة صاحبته.) انتهى كلامه. ولعل هذا الوصف للوفاة الممتد حتى ص 336 المشتمل على انكباب القرويين على أغراض السيدة هورتانز بعد وفاتها وتقاتلهم حولها؛ صورَ لنا قِيمة الإنسان في محيطه البشري الفاقد للإنسانية، وقد أصبح مجرد مقتنيات يسعى الجميع لامتلاكها قبل أن تصعد روحه إلى بارئها، في مشهد عميق الدلالة جسد همجية القرويين البدائيين في مواجهة حضارة زوربا الإنسان.
الموت كبعد إنساني حضر أيضًا بفلسفته وعمقه، وكان زوربا قد استثير واستشاط غضبًا بعد مشهد موت السيدة هورتانز وما رافقه من ابتذال إنساني فاق توقعه، ليسأل الرئيس وقت أن هدأت ثائرته وبدأ يحلل ما حدث ويغذي عقله الباطن بخبرة جديدة، قائلًا في ختام تساؤلاته القلقة المتعلقة بحقيقة الموت ص344: (أريدك أن تخبرني من أين أتينا وإلى أين سنذهب. لقد انشغلتَ طوال السّنين الماضية باستهلاك كتبهم عن السّحر الأسود ولا بد أنّك مضغت بضعة أطنان من الورق، فما الّذي استخلصته منها؟) انتهى كلامه.
وكان قد شرع في فلسفته تلك قائلًا ص344: (قال بصوت بدا عميقًا وجديًا في سكون اللّيل الدافئ: «هل بوسعك أن تخبرني أيّها الرئيس، ما الذي تعنيه كلّ هذه الأشياء؟ من صنعها كلّها؟ ولماذا؟ وقبل كل شيء» - وهنا أخذ صوته يرتجف من الغضب والخوف - «قبل كل شيء لماذا يموت الناس؟»
بصوت خجول، أخبرته أنّني لا أعرف، كما لو أنّ أبسط الأسئلة وأشدّها خطورة قد طُرح عليّ ولم أكن قادرًا على الشرح.) انتهى كلامه.
وكان زوربا قد رد عليه قائلًا: («حسنًا، ما نفع كلّ تلك الكتب الملعونة التي قرأتها؟ لماذا تقرؤها؟ إذا لم تخبرك بهذا، فما الذي تخبرك به؟») انتهى كلامه.
ورد عليه الرئيس بفلسفة عظيمة تلخص كل هذا الحوار الأزلي الذي لم يجد الإنسان حتى اللحظة إجابة عنه في قوله: (إنّها تخبرني عن حيرة البشرية التي لا تستطيع أن تجيب عن السؤال الذي طرحته عليَّ لتوّك، يا زوربا؟») انتهى كلامه.
هذا الحوار الرائع الذي أعادنا لفلسفة ألبير كامو العبثية، جسد بحق القيمة الحقيقية لهذه الرواية وأوضح بجلاء أنها لا تروي حكاية زوربا السطحية وتفتننا بشخصيته المركبة المدهشة، وإنما هدفها الأسمى؛ هذا الإنسان، الكائن العجيب الذي يعيش الحياة بطريقة لا تنسجم كلية مع كثير من الحقائق التي يؤمن بها، ويعرفها جيدًا، وإن كان لا بجيد تفسيرها فيذهب باتجاه العادات والمعتقدات حتى ينفك من استحقاقاتها. لكنه- وهذا هو المهم- لا يبني حياته وفق تأثيراتها كما فعل «ألبير» وإنما يسلك مسالك الغابرين، وكأنه لا يدرك كل هذه الحقائق التي أدركها زوربا وعلمته إياها الحياة، لكنها هي الأخرى -أي الحياة- وقفت حائرة فلم تجب عن بعض الأسئلة المهمة مثل حقيقة الموت وحتميته، مهما كانت قيمة الصراعات الإنسانية التي نعيشها والقوة التي نمتلكها.
هذا الحوار الرائع حول الموت الذي قاد الرئيس للاسترسال على مساحة صفحة 345 كاملة محاولًا الإجابة عن أسئلة زوربا القلقة حول الموت في حديثه الشيق عن «الرعب المقدس»، وحواره لاحقًا مع نفسه، قادني إلى أمر غاية في الأهمية يتعلق بحقيقة أن هذه الرواية لا تنطلق من فكرة محورية نتمحور حولها ويمكن اجتزاؤها والحديث عنها، أي أنها لم تكتب لهواة الحكايات المهمومين بتزجية الأوقات، بل لمن أرهقهم التفكير في تفاصيل الحياة، ويهتمون كثيرًا بفلسفتها. هذه الرواية كتبت كي يقرأها من تلتقط الحروف عقولهم قبل أعينهم، ويستغلون مثل هذه المواقف وإن كانت خيالية لإعادة ترتيب الحياة في أذهانهم، والوصول لبعض الإجابات المنطقية للأسئلة غير المنطقية. يظهر كل ذلك في حوار الرئيس الممتد مع نفسه الذي ابتدأه بقوله ص347: (أمام صمت زوربا، تحرّكت في داخلي من جديد الأسئلة الأبدية عديمة الجدوى. مرّة أخرى يمتلئ صدري بالألم. ما هذا العالم؟ تساءلتُ ما هو هدفه وبأي طريقة نستطيع المساعدة كي نحقّقه أثناء حيواتنا العابرة؟... إلخ) انتهى كلامه.
ومن الأشياء الرائعة التي تميزت بها هذه السردية وصولها في نهاية المطاف للتقريب بين الخبرات الإنسانية المباشرة التي جسدها زوربا، والخبرات غير المباشرة المستقاة من الكتب وتمثلت في الرئيس، وهو ما يحدث عادة عندما يصل الإقناع مداه، ويعتقد المتعلم أن الجاهل يعي الحياة أفضل منه ويقر له بذلك، كما يظهر في قوله ص384: (أجهشتُ بالبكاء. كان كلُّ ما قاله زوربا صحيحًا، حين كنتُ طفلًا كنتُ مليئًا بالدوافع المجنونة، والرغبات الخارقة، ولم أكن مكتفيًا بالعالم. تدريجيًا، ومع مرور الوقت، صرتُ أكثر رصانة، وضعتُ حدودًا، فصلتُ الممكن عن المستحيل، والإنسانيّ عن الإلهيّ، وأمسكتُ طائرتي الورقية بإحكام كي لا تهرب.) انتهى كلامه.
وأخيرًا ما دُوِّن هنا في هذه العجالة يعد وصفًا دقيقًا لتشكل الإنسان نتيجة الظروف المحيطة به، فزوربا عاش حياة مختلفة، أصبح معها على هذا النحو من الانفلات القيمي والإنساني، أو لنقل البوهيمية التي أخضعته لغرائزه وحاجاته الإنسانية، وإن تميز برجاحة عقل غير طبيعية، وقدرات قيادية جعلته شاهدًا عدلًا على كل تجاوزاته، يدركها تمامًا، ويعلم أبعادها جيدًا، لكنه لا يريد أن يعيش إلا بها، ليظهر لنا شخصية معقدة تحمل كل الأبعاد الإنسانية المعروفة في جسد إنسان واحد، في مواجهة رئيسه المناقض له تمامًا، وأتت كل المكونات الإنسانية الموصوفة في العمل بأبعادها المختلفة لتؤكد لنا حقيقة واحدة مهمة، أن رواية «زوربا اليوناني» مثلت بالفعل «فلسفة واقعية جدًا» لا يُمل من قراءتها والحديث عنها واسْتِعْبارها.